بسقوط نظام بنعلي في تونس، أعلن في المغرب سقوط مشروع يرمي إلى استلهام النموذج التونسي السابق في الحكم والقمع، وتنزيله في المغرب. فقد ظلّ زين العابدين بنعلي نموذجا للحكام العرب الذين يمسكون بزمام دولتهم بقبضة من حديد، ويقدّمون وجها أنيقا لدولتهم في الخارج عبر مسار تنموي اقتصاديا واجتماعيا. كتاب “صديقنا الجنرال”، نقل كيف اكتشف بنعلي في “منفاه” الأول، الذي لم يكن سوى منصب ضابط اتصال في السفارة التونسية بالمغرب، ملذات الحياة خلال فترة إقامته في المملكة. “وفي الحفلات التي كان يرتادها، لم يتردد الملحق العسكري في انتقاد المسيرة الخضراء التي نظمها الحسن الثاني في نونبر 1975…”، يقول الكتاب. تنقل المصادر سببا آخر لذلك الجفاء الذي ظلّ يطبع علاقة الحسن الثاني وبنعلي، يتمثّل في تقرير رفعه حين كان ملحقا عسكريا بسفارة بلاده في الرباط، عن إحدى العلميات الانقلابية التي استهدفت نظام الحسن الثاني. المصادر تقول عن تقرير بنعلي أنه جاء مندفعا ومتحاملا، بل ومبشّرا بنهاية العهد الملكي في المغرب. وهو ما لا يمكن للحسن الثاني أن يغفره. ورغم الزيارات المكثّفة التي تبادلها كل من الملك محمّد السادس والرئيس زين العابدين بنعلي، خاصة في السنوات الأولى لحكم الملك محمد السادس، فإن الأوراش الكبرى التي فتحها المغرب اقتصاديا، وتوجّهه إلى تطوير قطاع السياحة والاستثمارات الأجنبية، حوّله إلى منافس كبير لتونس، خاصة وأنهما معا يتمتعان بشراكة متقدمة مع الاتحاد الأوروبي.
يعتبر البعض أن موت زين العابدين بنعلي، وقعت يوم اضطر إلى ركوب طائرة وتاه في الأجواء باحثا عمن يستقبله. فالسياسيون من طينة الديكتاتوريين العرب لا يموتون بيولوجيا، بقدر ما تزهق أرواحهم مع خسارتهم آخر خيوط السلطة التي كانوا يتنفسونها. لكن خبر الوفاة البيولوجية الذي تردد بمصداقية أكبر، زوال أول أمس، لم يترك المغاربة دون اهتمام، فهم أيضا عرفوا زين العابدين بنعلي، من خلال الاحتكاك المباشر بين المجتمعين المغربي والتونسي، والذي تفرضه الجغرافيا والتاريخ والمصالح الرسمية والشعبية. فبسقوط نظام بنعلي في تونس، أعلن في المغرب سقوط مشروع يرمي إلى استلهام النموذج التونسي السابق في الحكم والقمع، وتنزيله في المغرب. فقد ظلّ زين العابدين بنعلي نموذجا للحكام العرب الذين يمسكون بزمام دولتهم بقبضة من حديد، ويقدّمون وجها أنيقا لدولتهم في الخارج عبر مسار تنموي اقتصاديا واجتماعيا. لتأتي ثورة “الياسمين” التي أطاحت ببنعلي، لتُسقط هذا المشروع في أيدي من كانوا يحملونه في المغرب. “أنا فهمتكم” آخر ما علق في أذهان المغاربة عن الديكتاتور التونسي السابق، كان يوم أطل على العالم إطلالته الأخيرة، فبدا مهزوزا ضعيفا خائفا، قال وكرّر: “لقد فهمتكم أيها التونسيون.. لقد فهمتكم”. وسط هدير الاحتجاجات الشعبية القوية التي خرجت مستهل العام 2011، أعلن وهو يكاد يُقسم كمن يطلب فرصة أخيرة، أنه لن يظلّ رئيسا بعد العام 2014، وأنه لن يرشّح نفسه مرة أخرى، كما لو أنه يقول للتونسيين: “سامحوني هذه المرة فقط، ولن تروا وجهي بعد هذه الولاية الرئاسية”. حاول الرئيس الجنرال أن يبدو حنونا، طيّبا، وقورا، ومغبونا. قال إن المسؤولين الفاسدين كانوا يُخفون عنه الحقائق، وإنه الآن فقط، عرف تلك الحقائق، “فهمتكوم.. أنا فهمتكوم”، قال بنعلي، كما لو يردّد خطاب الجنرال دوغول عام 1968 الذي قال فيه للطلبة الثائرين: “فهمتكم أيها الفرنسيون، لقد فهمتكم”. ثم توالت وعود الرئيس، الذي ورغم حرصه على الظهور واقفا أمام التلفزيون، كانت أرجله ترتجف وصوته يرتجف وكل شيء حوله يرتجف. لقد تابع العالم كله ليلتها أول فصل في حكاية الربيع العربي، وقال بنعلي إنه وبصفته رئيسا للجمهورية يأمر بالكف عن إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في الشوارع، وقال إنه سيُنهي عهد الرقابة والتضييق على الصحافة، وإن التونسيين لن يُمنعوا بعد اليوم من مواقع اليوتوب والفايس بوك وتويتر… قال إنه سيخفّض سعر السكر والخبز والحليب ومواد أساسية كثيرة أخرى. “إني تعهدت يوم السابع من نوفمبر (1987) بأن لا رئاسة مدى الحياة.. لا رئاسة مدى الحياة، ولذلك فإني أجدد الشكر لكل من ناشدني للترشح لسنة 2014، ولكني أرفض المساس بشرط السن للترشح لرئاسة الجمهورية” قال بنعلي، كما لو يطلب مهلة من أجل الانسحاب بشرف ودون إذلال. “أنا فهمتكم .. فهمت الجميع.. البطّال والمحتاج والسياسي واللي طالب مزيد من الحريات.. فهمتكم فهمت الكل.. حزني وألمي كبيران لأني أمضيت أكثر من 50 سنة من عمري في خدمة تونس في مختلف المواقع من الجيش الوطني إلى المسؤوليات المختلفة، و23 سنة على رأس الدولة”، قال بنعلي مستنجدا بلهجة تونسية اعتقدها قادرة على النفاذ إلى قلوب التونسيين. صدمة الديكتاتور دقائق قليلة بعد خطاب بنعلي مساء الأربعاء 13 يناير 2011، كانت كافية لإسقاط وعود الرئيس، وتخييب أمله في طي صفحة الاحتجاج والتظاهر عبر رفع اللافتات المطالبة برحيل الرئيس. دقائق قليلة كانت كافية لتذكير من كادوا يصدقون الرئيس، أن نظام بنعلي فُطر على عدم تحمّل التظاهر والاحتجاج، ولم يسبق له أن رأى آلاف المحتجين أمام مؤسساته ومواقعه الرمزية، وأن جوابه الوحيد عن ذلك، هو لعلعة الرصاص… 13 شخصا قُتلوا بُعيد خطاب الرئيس. صباح يوم الجمعة 15 يناير، كانت المواجهات قد أصبحت أعنف من سابقاتها، والمتظاهرون أصبحوا أكثر جرأة وقدرة على اقتحام الحصار الأمني، فأخذوا يتسلقون جدار المقر المركزي لوزارة الداخلية، وصرخوا بصوت عال، مطالبين برحيل بنعلي. في المقابل، أخرجت قوات الأمن عتادها الثقيل من قنابل مسيلة للدموع وهراوات ورصاص حي، فوقعت الاصطدامات وسقط القتلى والجرحى، وبدا أن سماء تونس آخذة في التلبّد، وأن أجواء جديدة ستحلّ هناك. رغم أن الرئيس بنعلي ظلّ يقاوم ويؤكد وجوده، فلعب آخر أوراقه: إقالة الحكومة والدعوة إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها خلال ستة أشهر، بينما كان سفير تونس لدى منظمة اليونسكو يُعلن استقالته من منصبه “تضامنا” مع المتظاهرين، وإعلانا لبداية تفكّك النظام القوي، رغم خروج وزير الخارجية التونسي للترحيب بتشكيل حكومة وحدة وطنية، واعتباره أن ذلك “ممكن جدا وطبيعي”. يومها لوحظ استنفار أمني غير مسبوق في مطار تونس العاصمة، وقيل في البداية إنهم نحو ستة من أفراد عائلة زوجة الرئيس يحاولون مغادرة البلاد على متن طائرة متوجهة إلى فرنسا تضم نحو 145 راكبا، لكن الربان يرفض الإقلاع. أخذت وحدات الجيش التونسي تنزل تباعا إلى المدن والشوارع الرئيسة، والقناة التونسية السابعة تُعلن حالة الطوارئ، وتحذّر المواطنين من الخروج إلى الشارع، فيما شريط للأخبار يبشّر بقرب الإعلان عن قرار سياسي تاريخي. المفعول الذي توقّعه بنعلي سحريا على الجماهير لخطابه كان عكسيا، وسرعان ما فوجئ الرئيس القوي بأعداد المتظاهرين وقد تزايدت، بل وتوجّهت إلى رموز نظامه السياسي والأمني، (القصر الرئاسي كان الهدف المُعلن بعد مقر وزارة الداخلية). النظام البوليسي ينهار اضطربت رموز ودعائم النظام البوليسي وتسلّل الخوف إلى قلوبهم، حين شعروا كما لو أن الرئيس يستعدّ للتضحية بهم أو ببعضهم على الأقل. أكثر من ذلك، هزّ الاضطراب بنيان وزارة الداخلية نفسها، وبدت الآلة الجهنمية التي بناها بنعلي طيلة 23 سنة، وضمّ إليها نحو 250 ألف رجل ضمن أجهزتها الأمنية والاستخباراتية، بالإضافة إلى نحو عشرة آلاف عنصر من الوحدات الخاصة المسماة “النمور السود” «les tigres noirs»، عاجزة عن التحرك، خاصة أن الرئيس أقال وزير الداخلية وأقال معه الحكومة وبات يهدّد بمعاقبة “المسؤولين الفاسدين”. لعب الرئيس آخر أوراقه، وبدا الجيش عاجزا عن حسم الأمور ورافضا لمبدأ الدخول في مواجهة مع المتظاهرين، فبالأحرى إطلاق النار عليهم. وبعض أعمدة وزارة الداخلية نفسها رفضوا التدخّل لتفريق المتظاهرين أمام الوزارة، رغم إصدار بنعلي لتعليماته بالتدخّل الصارم، ورؤوس أخرى للنظام بدأت في البحث عن حماية مصالحها الشخصية والاستعداد للأسوأ. فأصيب الرئيس بحالة اكتئاب شديد، لدرجة أنه امتنع عن الرد على المكالمات الهاتفية لبضع ساعات، وظهرت عليه علامات التعب والإرهاق بعد أيام من امتناعه عن تناول الطعام والنوم. تفتّقت عبقرية النظام التونسي على سيناريو مُحكم للإفلات من المأزق. وكانت الخطة تقضي بمغادرة الرئيس زين العابدين بنعلي للبلاد بشكل مؤقّت، وتفويضه للسلطة لوزيره الأول محمد الغنوشي بناء على الفصل 56 من الدستور، والذي يُبقي بنعلي رئيسا، مما يُبقي احتمال عودته إلى قصره الرئاسي، أو يضمن له على الأقل الحصول على صفة اللاجئ السياسي. وكانت تلك أول خُطوة تم الإعلان عنها بعيد مغادرة الرئيس بنعلي لتونس على متن طائرته الرئاسية، وذلك هو “القرار التاريخي” الذي انتظره الجميع. فسرعان ما ظهر الوزير الأول التونسي على شاشة القناة السابعة، على يساره رئيس مجلس النواب، فؤاد المبزّع، وعلى يساره رئيس مجلس المستشارين. وطبقا للفصل 56 من الدستور التونسي، يُعلن الوزير الأول محمد الغنوشي توليه مهام الرئاسة بسبب ما وصفه تعذّر اضطلاع الرئيس بمهامه. رئيس تائه في الأجواء بمجرّد إقلاع طائرة الرئيس، بدا أن ثقوبا كبيرة تخترق المخطط، أولها ما توصّل به بنعلي وهو على متن طائرته الرئاسية، وبعدما تجاوزت المجال الجوي لجزيرة مالطا، من خبر صادم “زفّه” إليه صديقه نيكولا ساركوزي. فبعدما كانت السلطات الفرنسية قد أصدرت تعليماتها لأجهزتها الأمنية من أجل الاستعداد لاستقبال الرئيس التونسي، عقد ساركوزي اجتماعا مطولا مع خلية شكّلها على وجه السرعة، ثم اتخذ قرارا بعدم استضافة بنعلي، لكونه أصبح “ورقة محروقة”. في تلك اللحظات نفسها، شرعت أعمدة نظام بنعلي، السياسي والأمني، في الهرب تباعا، حيث لم يمكث في تونس سوى المحسوبين على آل الطرابلسي، عائلة زوجة الرئيس، والمعنيون بحماية مصالحهم الاقتصادية الكبرى داخل البلاد. فيما كان بنعلي يراهن على تنفيذ “النمور السود” لخطة إطلاق ثورة مضادة، تتمثل في إشعال نار الفتنة والرعب في جميع أرجاء تونس، ومنع البلاد من استعادة الاستقرار والأمن، لتُصبح بذلك عودة الرئيس “الغاضب” الملاذ الأخير للتونسيين، فيكون هو المُنقذ الوحيد للبلاد، فيخرج من هذه الأزمة أقوى وأكثر شرعية مما كان في السابق. كل هذه التطوّرات جرت بينما طائرة الرئيس تائهة تهمّ بمغادرة المجال الجوي الفرنسي، فراح بنعلي يسابق الزمن لتأمين ملاذ لنفسه ولأسرته الصغيرة. علما أنه لم يحمل معه في رحلته تلك إلا عددا قليلا من أفراد أسرته وأعمدة حكمه، ما يشير إلى نيته العودة بعد استكمال تنفيذ مخطط الإنقاذ، فاتصل بالأمير نايف بن عبدالعزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية في المملكة العربية السعودية. فالرجلان يعرفان بعضهما البعض جيدا، وتجمعهما صداقة قديمة ووثيقة، تبادلا بموجبها “خدمات” كثيرة. بعدما استشار الوزير السعودي الملك عبدالله الثاني، القابع في نيويورك الأمريكية من أجل العلاج، وافق على منح زين العابدين بنعلي فرصة اللجوء، شريطة الامتناع عن القيام بأي نشاط سياسي من داخل المملكة. فتوقّفت طائرة الرئيس بنعلي عن “الطواف” في أجواء العربية السعودية، وحصلت على إذن بالهبوط في مطار جدة، ليخرج منها بنعلي وهو ببذلة غير رسمية، حيث لم يكن يتوفر على ربطة عنق، فلم يكن في استقباله أي شخصية سعودية رسمية، بل تولى الأمر أحد مساعدي الأمير نايف وعدد من المسؤولين الأمنيين، أخذوا بنعلي إلى فيلا فسيحة تقع شمال مدينة جدة. وفيما ألحّ بنعلي على صدور بيان عن الديوان الملكي السعودي يُعلن قبول استضافته، مخافة التراجع عن هذا القرار، أوفدت السعودية طائرة خاصة جلبت أسرة بنعلي، وعلى رأسها زوجته ليلى الطرابلسي، من مدينة دبي التي كانوا يوجدون فيها. في تونس، كان المتظاهرون التونسيون يبرهنون على قوتهم التي فاقت ما توقّعه الجميع، وظلوا متمسكين بسقف مطالبهم المرتفع، وسرعان ما أنهى المجلس الدستوري التونسي وجود الوزير الأول محمد الغنوشي على رأس الدولة نيابة عن بنعلي، وأعلن شغور منصب الرئاسة، أي إزاحة زين العابدين بنعلي بشكل نهائي، وتولي فؤاد المبزّع، رئيس البرلمان، مهام رئاسة الجمهورية بناء على المادة 57 من الدستور التونسي. بنعلي في أعين المغاربة هنا انتهى عهد بنعلي في تونس، إذ تحوّل إلى مجرد “لاجئ” ممنوع من فتح فمه بأي كلمة في ضيافة آل سعود. نهاية تابعها المغاربة بكثير من الاهتمام وبعضهم لم يقدر على صد تلك القشعريرة التي انتابتهم وهم يتفرّجون على سقوط أحد “جيرانهم” الأقوياء، والذي طالما وصلهم بعض لهيب نيرانه، حين كان بعضهم يتجرأ على انتقاده على صفحات الجرائد أو الندوات، كما ساهم في تأخير استضافتهم أحد مكاتب قناة الجزيرة القطرية القوية. يومها قال الخبير المغربي في الشؤون المغاربية، عبدالرحمان مكاوي، لكاتب هذه السطور، إن بنعلي كانت له علاقات متينة مع المغرب، “ومن حسناته أنه قطع الطريق على جنرالات الجزائر، حين حاولوا ضم جبهة البوليساريو إلى جامعة الدول العربية، ثم إلى اتحاد المغرب العربي”، مضيفا أن بنعلي قام بعكس ما قام به سلفه الحبيب بورقيبة، “الذي كان الزعيم العربي الوحيد الذي تحمّس لانفصال موريتانيا، وعمل على ذلك رفقة الجنرال دوغول، كما ساعدها في ولوج منظمة الأممالمتحدة، ثم جامعة الدول العربية عام 1974. كما أن وزير داخليته الطاهر بلخوجة، قام بدور مشبوه في قضية الصحراء، حيث كان وراء إقناع الملك الراحل الحسن الثاني بإيقاف زحف جيشه بعد المواجهات الأولى ب”امغالا”، حين كانت القوات المغربية عازمة على التقدّم إلى غاية تندوف، بينما قال بلخوجة للحسن الثاني إن بورقيبة يطلب منه توقيف العمليات، فاعتقد الملك أن الأمر يتعلّق بإشارة فرنسية أمريكية من أجل حلّ المشكل، لتستفيد الجزائر والبوليساريو من تلك الفترة التي توقّف فيها الهجوم المغربي”، يضيف مكاوي. “صديقنا الجنرال” قبل نحو عشر سنوات من سقوط حكم بنعلي، كان الفرنسيان جون بيير تيكوا، ونيكولا بو، قد أصدرا كتابا بعنوان: “صديقنا الجنرال زين العابدين بنعلي”، على غرار الكتاب الذي صدر في الثمانينيات عن الملك الراحل الحسن الثاني. وجاء ذلك الكتاب، الذي ظل ممنوعا من دخول تونس، طافحا بالمقارنات بين رئيس تونس وملك المغرب الراحل. وجاء فرنسي ثالث اسمه جيل بيرو، ليكتب في الفقرة الأولى من مقدمة الكتاب: “الانتقال من الحسن الثاني إلى زين العابدين بنعلي، هو هبوط من أرستقراطية الجريمة إلى الضحالة المُفجعة لسوقي آت من إحدى المديريات الفرعية. لا نطعن هنا في البلاد، بل في الأشخاص. كان للحسن الثاني رأس وليس لزين العابدين بنعلي سوى يدين”. وأضاف بيرو، الذي يُعتبر من الفرنسيين الذين خبروا المغرب ونظامه السياسي جيدا، أن الأول (الحسن الثاني) كانت له “مع كل خطاياه، فضائل منها الذكاء. ولا يتميّز الثاني الملقب ب”باكالوريا ناقص 3″، سوى بردود فعله المتعجّلة التي يكتسبها المرء في الثكنات. كان الأول ملكا في أسوأ تجاوزاته، وليس الآخر سوى شرطي شرس يفرض على أحد أكثر شعوب العالم تحضرا السجن في قفص من الديكتاتورية المتوحشة”. بينما كان مؤلفا الكتاب أكثر هدوءا، وبدآ برسم مسار الرئيس السابق لتونس، إذ لم تنطلق مسيرة بنعلي فعلا، حسب الكاتبين، إلا بعد الاستقلال عام 1956. نواة من ضباط وطنيين من حراس الباي أرادت حينها أن تشكل جيشا بسرعة. وكان منهم حملة الباكالوريا البارزين، وهو ما كان نادرا في تونس ما بعد الاستقلال، وكان من بينهم عبدالحميد الشيخ، الذي أصبح في ما بعد وزيرا للخارجية. أما الآخرون الذين لم يحصلوا على الباكالوريا، فاختارهم الحزب الدستوري، حزب بورقيبة، ليتبعوا دورة قصيرة من ستة أشهر في الجيش الفرنسي. وكان من ضمن المختارين المحظوظين، زين العابدين بنعلي وصديقه الحبيب عمار، الذي سيصبح وزيرا للداخلية والمخطط الرئيس للإطاحة ببورقيبة… إثر عودته من فرنسا، سكن بنعلي، حسب “صديقنا الجنرال” في حي الضباط في باردو. وعلى مقربة من هناك، كانت توجد فيلا العقيد كافي، وهو ضابط سابق في الجيش الفرنسي، أصبح رئيس أركان الجيش التونسي. “فسارع زين العابدين إلى مصادقة ابنته، ثم تزوجها”. وبفضل دعم حماه النافذ، ذهب بنعلي إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتحديدا إلى المدرسة العسكرية العليا للاستخبارات والأمن في بلتيمور، ليتابع تكوينا لمدة 20 شهرا. وبعد عودته من الولاياتالمتحدة، عيّن الماجور بنعلي مديرا مساعدا، ثم مديرا للأمن العسكري، بينما اقتصر زملاء دورته على حياة الحامية العسكرية. فكانت مهمته تأمين مراقبة الثكنات العسكرية. يد القذافي مؤلّفا الكتاب المثير قالا إن التونسيين سمعوا لأول مرة باسم زين العابدين بنعلي عام 1974، خلال الاتحاد العابر بين تونس وليبيا. ففي 12 يناير 1974، أعلن الحبيب بورقيبة ومعمر القذافي ولادة دولة جديدة، هي الجمهورية العربية الإسلامية. وتم الاحتفال في فندق فخم في جزيرة جربة… وفي ذلك اليوم، اقترح رئيس الدولة الليبية أسماء أربعة تونسيين لشغل مناصب استراتيجية في الحكومة الجديدة، ومنها اسم بنعلي لقيادة المكتب الثاني، أي الاستخبارات والأمن العسكري. وينقل الكتاب الفرنسي ما كتبه الأستاذ الجامعي محسن التومي: “ها هي نقطة تستحق التوضيح في السيرة الذاتية لرئيس الجمهورية”. إلا أننا لا يمكن أن نغامر بفرضية، يستدرك الكاتبان الفرنسيان، فقد كان الليبيون دوما يخترقون جيش جارتهم تونس، ومن الصعب أن نتخيّل أن يكونوا قد اقترحوا اسم بنعلي دون أن يحصلوا على تأكيدات من طرفه، يضيفان. ومهما كان الأمر، فقد غدت مرحلة جربة هذه موضوعا محرما في تونس، وحتى مذكرات الطاهر بلخوجة، وزير داخلية بورقيبة السابق، تبرز في ملحق الوثيقة الرسمية، لائحة وزراء الاتحاد التونسي الليبي، دون أن يظهر فيها اسم زين العابدين بنعلي. بعد قمة جربة ببضعة أيام، ألغي الاتفاق أمام المعارضة القوية للهادي نويرة، رئيس الوزراء التونسي الذي عاد من إيران على وجه السرعة، ونفى، وهو في أشد حالات الغضب، بنعلي ملحقا عسكريا في الرباط. وهنا بدأت قصة بنعلي مع المغرب. ضابط الأمريكيين “يُعتبر زين العابدين بنعلي بمثابة ضابط اتصال لحساب الولاياتالمتحدةالأمريكية، فهي التي ظلّت تعيّنه حيثما شاءت سواء في الداخل أو الخارج. ثم إن تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي لا تدخل ضمن اختصاص وزارة الخارجية الأمريكية، بل مجلس الأمن القومي والبانتاغون”، يقول الخبير العسكري عبدالرحمان مكاوي في تصريح سابق لكاتب هذه السطور. كما ظلّت تونس لسنوات طويلة توفّر لواشنطن قواعد عسكرية فوق أراضيها وتنسّق مع أسطولها المنتشر في البحر الأبيض المتوسط بشكل وثيق. “وحتى عندما كان ملحقا عسكريا في سفارة بلاده بالمغرب، كان رجل الأمريكيين بلا منازع، خاصة في متابعة ملف الصحراء”، يجزم مكاوي. كتاب “صديقنا الجنرال”، نقل كيف اكتشف بنعلي في “منفاه” المغربي ملذات الحياة. “وفي الحفلات التي كان يرتادها، لم يتردد الملحق العسكري في انتقاد المسيرة الخضراء التي نظمها الحسن الثاني في نونبر 1975… هل كان هذا النوع من الهمس الذي نُقل إلى الملك هو الذي جعله ذا سمعة مزعجة لدى النظام المغربي؟” تساءل بيير توكوا وزميله قبل أن يؤكدا: “الحقيقة التي ستتأكد في ما بعد، هي بقاء العلاقات بين الحسن الثاني وبنعلي رديئة جدا. وسينسى العاهل المغربي حتى أن يشير في إعلان قمة عربية عقدت في المغرب، إلى حضور زين العابدين بنعلي، الذي كان يحتقره باستعلاء. ولم يستطع الجنرال أن يمتنع عن التثاؤب من الضجر، خلال جنازة الحسن الثاني في يوليوز 1999 بالرباط، كما أظهره التلفزيون المغربي سهوا”. تنقل مصادر سببا آخر لذلك الجفاء الذي ظلّ يطبع علاقة الملك الراحل وبنعلي، يتمثّل في تقرير رفعه حين كان ملحقا عسكريا بسفارة بلاده في الرباط، عن إحدى العلميات الانقلابية التي استهدفت نظام الحسن الثاني. المصادر تقول عن تقرير بنعلي جاء مندفعا ومتحاملا، بل ومبشّرا بنهاية العهد الملكي في المغرب. وهو ما لا يمكن للحسن الثاني أن يغفره. مواقف جريئة “مقابل كل ما يمكن أن نسجّله ضده، كانت لزين العابدين بنعلي مواقف جريئة، وهو الذي أقنع الرئيس الجزائري الشاذلي بنجديد والعقيد الليبي معمر القذافي، بفكرة اتحاد المغرب العربي، فقد كان رجل مخابرات بامتياز، وعرف كيف يلعب على التوازنات والتناقضات. مما جرّ عليه بعض النفور من جنرالات الجزائر، خاصة بعدما كشفت وثائق و”يكيليكس” أنه كان يعتبرهم عقبة أمام اتحاد المغرب العربي، فكان ردّهم هو ذلك التشفي الذي عبّرت عنه الصحافة المقرّبة منهم بعد إعلان مغادرة بنعلي لتونس”، يقول عبد الرحمان مكاوي. الإمساك بخيوط العلاقات المغربية مع الدول المغاربية، يتطلّب العودة إلى فترة السبعينيات التي كانت خلال زين العابدين في الرباط. فخلال محاولات المغرب كسر الحصار الجزائري، سعى إلى إقامة تحالفات مع دول مغاربية أخرى، خاصة منها تونس وليبيا. فتمكنّت الرباط من اجتذاب تونس إليها، وضمنت حيادها بخصوص ملف الصحراء. حياد لم يستمرّ إلا بضع سنوات، حيث سرعان ما انحازت تونس بورقيبة إلى الجزائر مع بداية الثمانينيات، وتوّج ذلك التقارب بتوقيع اتفاقية الأخوة والتضامن عام 1983، انضمت إليها موريتانيا عام 1984. ردّ الملك الراحل على هذا التحالف التونسي مع الجزائروموريتانيا، كان بتوقيع اتفاقية وجدة يوم 13 غشت 1984، والقاضية بإقامة اتحاد مع ليبيا، في وقت كانت فيه هذه الأخيرة تعيش عزلة دولية وإفريقية خانقة. وصول زين العابدين بنعلي إلى قمة الدولة التونسية، أعاد المنطقة إلى توازنها، وأصبح دور حاكم قرطاج حاسما في الحفاظ على هذا الوضع، والذي توّج بتوقيع اتفاقية اتحاد المغرب العربي، بدور كبير لعبه بنعلي للتقريب بين الحسن الثاني وكل من الشاذلي بنجديد ومعمر القذافي. لكن تونس بنعلي، تخلّت عن أي طموح على الساحة العربية، فاسحة المجال أمام مغرب الحسن الثاني. فكما ينقل كتاب “صديقنا الجنرال”، يؤكد الأستاذ الجامعي الفرنسي ريمي ليفو، أن الحبيب بورقيبة برهن على استقلال حقيقي باستقباله في تونس مقر الجامعة العربية، وخصوصا مقر منظمة التحرير الفلسطينية. علما أنه وفي تلك الفترة، كان الغربيون يصنفون تشكيل ياسر عرفات كمنظمة إرهابية. هذه التركة المتأججة لم يعرف بنعلي أو لم يشأ أن يستثمرها. فانتقلت الجامعة العربية إلى القاهرة، واستقرت منظمة التحرير الفلسطينية في قطاع غزة. وبعدما انفرد الرئيس التونسي بأخذ موقف ضد التدخل الغربي أثناء أزمة الخليج، وترك الشارع يعبر عن دعمه لنظام صدام حسين… قبلت تونس عام 1995 إنشاء مكتب لرعاية المصالح الإسرائيلية في العاصمة. مقارنة بالمغرب يُمعن الكاتبان الفرنسيان ل”صديقنا الجنرال” في مقارنتهما بين بنعلي والملك الحسن الثاني، ويمدّدانها لتشمل ابنه محمّد السادس، حين يجزمان أن على الشعب التونسي أن ينتظر الديمقراطية لفترة طويلة، “إلى درجة أن ملك المغرب الحسن الثاني بلغ به الأمر عام 1991، أن ينصح الصحافيين الأجانب المبلدي الذهن بنظره، بالأفكار المسبقة عن وضع حقوق الإنسان في بلاده أن يهتموا أكثر بتونس. فصحيح أن الملك كان قد جعل النظام ليبراليا في نهاية حكمه، وبالمقارنة مع الرئيس التونسي، يبدو الحسن الثاني، وكذلك ابنه محمد السادس في نهاية هذا القرن (القرن 20)، ليبراليين”. فتونس بقيت، حسب الكتاب، عاجزة عن استرجاع المعارضة من المنفى أو حتى إبطال مفعولها، عكس ما قام به المغرب. “ففي المغرب، وزير داخلية الحسن الثاني ثم محمد السادس، إدريس البصري، عرف كيف يربط الملكية الشريفة بمعارضين كانوا يعتبرون غير قابلين للإصلاح”، يقول الكتاب الفرنسي الذي تساءل: “هل نقارن تونس مع المغرب؟ تونس جمهورية مشهورة بتسامحها وأعطت الأفضلية للمساواة بين الجنسين، وتشجع وصول الجميع إلى التعليم والصحة، تفوز دوما على ملكية مطلقة عفا عليها الزمن ومحافظة. مع القضاء على الأمية وتمكين كل شخص من تلقي العلاج وتأمين تكافؤ الفرص هي شعارات خالية في الغالب من المعنى في المغرب”، ثم يستدرك الكاتبان الفرنسيان قبل نحو عشرين سنة: “المفهوم اليوم مختلف، وإن لم يرق ذلك لقصر قرطاج. فمن مثل يُحتذى به، تونس في طريقها اليوم إلى أن تصبح النموذج المعاكس. هي التي كانت تُمتدح لاستقرارها السياسي وإدارتها الحازمة والفعالة ضد الإسلام السياسي، ها هي يشار إليها بالأصبع. وهذا التحول يعود سببه على نحو كبير إلى انحرافات “البنعلية””. جنّة أصبحت جحيما رغم الزيارات المكثّفة التي تبادلها كل من الملك محمّد السادس والرئيس زين العابدين بنعلي، خاصة في السنوات الأولى لحكم الملك محمد السادس، فإن الأوراش الكبرى التي فتحها المغرب اقتصاديا، وتوجّهه إلى تطوير قطاع السياحة والاستثمارات الأجنبية، حوّله إلى منافس كبير لتونس، خاصة وأنهما معا يتمتعان بشراكة متقدمة مع الاتحاد الأوروبي. كما “عرف بنعلي كيف يستغل الوضع الدولي”، يقول كتاب “صديقنا الجنرال”. “فأوروبا يائسة من بلدان المغرب العربي، واستعادت تونس ألقا لا يمكن إنكاره. في الشرق لا يعد العقيد معمر القذافي أبدا شريكا يمكن الوثوق به، وفي الغرب، كانت نزوات الرئيس بوتفليقة، وكذلك عدم قدرته على التحرر من عرابيه العسكريين مخيبة للآمال؛ أما في مغرب محمد السادس، ملك الفقراء، فهو يسير أكثر فأكثر على خطى والده الحسن الثاني… ضمن هذه الظروف، تبدو تونس فردوسا”. هذه الجنة التي رآها الفرنسيون في تونس بنعلي، سرعان ما تحوّلت إلى جحيم فرّ منه الرئيس الجنرال هو وأسرته، تاركين قرطاج ساحة لحرب محتملة.