فجأة، تغير مسار الرياح بشكل كلي في العاصفة التي كانت تضرب حزب الأصالة والمعاصرة طيلة هذا العام، وكانت تنذر بوقوع أسوأ السيناريوهات، أي الانشقاق. تيار “المستقبل”، وفي اجتماع مستعجل يوم الجمعة، قرر تأجيل كافة خططه المقررة للإطاحة بأمينه العام في الحزب، حكيم بنشماش، من قيادة الحزب. الخطة الرئيسية تقرر إلغاؤها في الوقت الحالي، وهي المؤتمر المعلن عن برمجته نهاية هذا الشهر. حدث ذلك، في وقت كانت شاحنات تفرغ الوسائل اللوجستيكية في مجمع مولاي رشيد للطفولة والشباب ببوزنيقة، لتنفيذ الإعدادات المتعلقة بتجهيز مكان المؤتمر. ماذا حدث بالضبط حتى تغيرت الخطط كلها؟ كان مؤتمر هذا الشهر هو الرهان الرئيس، كما النهائي لدى قادة تيار “المستقبل”، وقد أظهر هؤلاء موقفا حاسما غير قابل للتراجع بخصوصه، لكن شيئا ما تغير يوم 13 شتنبر. تأجيل مُملى وبينما يسعى تيار بنشماش إلى القول إن وزارة الداخلية رفضت الترخيص لهذا التيار عقد مؤتمره، ظهر أن الأسباب الحقيقية قد تكون غير مرتبطة بالترخيص الذي لم يقدم “المستقبل” طلبا رسميا – يكون عبارة عن إخبار- بخصوصه. ويؤكد سمير كودار، رئيس اللجنة التحضيرية لهذا المؤتمر، بأنه لم يقدم طلبا. أولى الروايات تشير إلى أن قادة تيار “المستقبل” تلقوا توجيهات من “جهات خارجية”، هدفها حث هؤلاء على تأجيل المؤتمر إلى موعد لاحق. هذه التوجيهات، بحسب مصادر من التيار، تضمنت، أيضا، تطمينات بخصوص الطريقة التي يجب أن ينعقد بها المؤتمر الرابع للحزب، وهي طريقة ترغب في ألا يحدث انشقاق بالحزب الذي رعته السلطات منذ ولادته قبل عشر سنوات. ويؤكد قيادي فضل عدم الكشف عن اسمه، على أن التوجيهات تُلِّح على القيام بوساطة بين المتخاصمين داخل الحزب في وقت قريب. لكن تيار “المستقبل” لم يتلق أي إرشادات إضافية بخصوص طبيعة هذه الوساطة، أو دور التيار فيها، أو الكيفية التي ستتفاوض بها مع بنشماش، أو الشروط المسبقة لها، كما ليس لديها علم بصورة ما سيحدث بعدها. ثلاثة قياديين بارزين في هذا التيار، يؤكدون ل”أخبار اليوم” هذه الوقائع. لكنهم لا يعرفون ماذا سيحدث مستقبلا. قيادي من هؤلاء يقول: “بحسب ما فهمت، فإن هذا التدخل الخارجي يسعى إلى حماية الحزب من الانشقاق. ونحن نسمح بهذه التدخلات على كل حال، وفي الغالب، فإن الاتجاه من الآن فصاعدا سيكون عبارة عن سلسلة من قرارات التخلي والحل، أي حل اللجنتين التحضيريتين لكل من تيار “المستقبل”، وأيضا تلك التي شكلها بنشماش، ويقودها أحمد التوهامي، ثم التخلي عن كافة القرارات التأديبية التي أصدرها الأمين العام ضد معارضيه، ثم تشكيل لجنة تحضيرية مختلطة يجري التفاوض حول رئيسها، كما سيجري التفاوض حول باقي مؤسسات الحزب”. قيادي ثان يقدم تصورا إضافيا، ويؤكد على أن “التيار لم ينهزم، لكنه يشعر بثقل المسؤوليات الملقاة عليه”، ويوضح: “تلك الرغبة المعبر عنها بخصوص توحيد الصفوف ينبغي أن تكون موضع حفاوة وتدابير عملية. لقد قررنا تأجيل المؤتمر إلى وقت لاحق، لكن من الواضح أننا لم نعد إلى نقطة الصفر. الوضعية الحالية معقدة، وربما يجب أن تُلين بعض المواقف للوصول إلى حل مرض”. ويعتقد قيادي آخر أن الحل هذا “من دون شك سيكون بين احتمالين: إما أن تقود شخصية محايدة حزبنا في المرحلة المقبلة، وإما أن يكون من تيار “المستقبل”، لكن محاطا بتوافقات مع تيار بنشماش”. ولقد طرح اسم مصطفى الباكوري، الأمين العام السابق، لهذه المهمة، كما طرح اسم فوزي لقجع، رئيس الجامعة الملكية لكرة القدم، رغم كونه كان منتسبا إلى حزب التجمع الوطني للأحرار فيما مضى. فيما قيل إن اسم عبدالوافي لفتيت، وزير الداخلية الحالي، يرد ضمن المقترحات، في حال خروجه من الحكومة عقب التعديل المزمع تنفيذه هذا الشهر، في إعادة لسيناريو محمد حصاد، وزير الداخلية السابق، عندما دفع إلى حزب الحركة الشعبية بعد خروجه من الحكومة في تعديل أيضا، لكنه لم يفلح في قيادة هذا الحزب. اسم لفتيت إن كان سيُطرح في أي برمجة مستقبلية لقيادة “البام”، سيعطل عقد المؤتمر في غالب الأحوال إلى مطلع عام 2020. وحتى الآن، يبدو أن تيار “المستقبل”، الذي كان يرفض حتى وقت قريب، أي توجه لمصالحة متأخرة، بعدما كان بنشماش قد رفض سابقا مبادرتين للوساطة على الأقل، يعمل لوحده بهذا الخصوص، بينما تيار بنشماش يتصرف وكأنه غير معني بما حدث. يوم الجمعة، عقد لقاء لأعضاء المجلس الوطني لحزبه في تطوان، وكيلت اتهامات كبيرة لقياديين في “المستقبل”، لكن بنشماش غاب عنه رغم أن الترتيبات كانت معدة لحضوره. ويرى بعض قادة التيار أن في غيابه “مؤشرا على تلقيه هو، أيضا، لإرشادات كتلك التي توصل بها “المستقبل””. ويخطط تيار “الشرعية” لعقد دورة استثنائية للمجلس الوطني، يفترض أن تعقد نهاية هذا الأسبوع. وإذا لم يحدث ذلك، فإنه سيكون مؤشرا ثانيا على صحة القول بوجود تعليمات مشتركة. الخلافات المتأخرة لكن من جهة ثانية، هناك قياديون من تيار “المستقبل” يدفعون في اتجاه تسويق تأجيل المؤتمر على أساس أن مصدره وجود خلافات داخلية بين قادة التيار نفسه، حول الطريقة التي يجب أن يعقد بها المؤتمر. قيادي بارز في التيار قال ل”أخبار اليوم”، إن تياره وجد صعوبة في تمويل المؤتمر عبر المساهمات والتبرعات، موضحا أن “حجم الأموال التي جرى جمعها لا تصل إلى المستوى الذي يمكن معه تنظيم مؤتمر يحضره أربعة آلاف شخص”، ناهيك عن الملاحظات القانونية التي أثيرت بخصوص مشروعية القيام بحملة تبرعات في هذا الصدد. وليس هذا فقط، بل إن قادة التيار اختلفوا حول ما إن كان يجب عليهم أن يتمهلوا في خطوة المؤتمر حتى تحسم المحاكم في الدعاوى المرتبطة به، خصوصا تلك التي رفعها بنشماش ضد سمير كودار، رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر، ويطلب فيها الحكم ببطلان انتخابه في هذا المنصب، وترتيب الآثار القانونية عن ذلك، أي منع انعقاد المؤتمر. وكان هناك رأيان متعارضان في هذه القضية بين من يرى بأن التيار يجب أن يذهب إلى مؤتمره لتأكيد صواب منهجه السياسي، بغض النظر عن مآل الدعاوى الجارية في المحاكم، فيما رأي ثان يعتقد بأن المؤتمر ونتائجه ستصبح في مهب الريح إن صدر حكم قضائي ضد كودار بعد تاريخه. ويؤكد كودار في تصريح ل”أخبار اليوم” بأن التريث في عقد المؤتمر حتى ظهور نتائج المعركة القضائية، كان هو الدافع الرئيس لطرح فكرة التأجيل. كودار يقول إن اجتماعا للجنة التحضيرية سيعقد بعد جلسة المحكمة ليوم الأربعاء المقبل، سيحسم في الترتيبات المرتبطة بالتأجيل من عدمه. قضية ثالثة كانت مثار خلاف كذلك؛ وهي تلك المتعلقة بالطريقة التي ينبغي بها انتداب المؤتمرين. فهذه العملية توقفت مؤقتا، ورأى قياديون في التيار أن الانتداب وهو عملية مضنية على مستوى الجهات كما على صعيد أجهزة الحزب، يجب أن ينطلق بعد حسم المحكمة في القضية المرفوعة ضد كودار، لكن ذلك سيستغرق وقتا أطول مما هو متاح أمامهم بين الجلسة المحددة تاريخها يوم 19 شتنبر، وبين تاريخ عقد المؤتمر يوم 27، وهي فترة غير كافية لتنفيذ عملية انتداب المؤتمرين وفقا لتقدير قياديين. ولم يحسم التيار بعد في قوائم المؤتمرين، وهي مشكلة مطروحة على الطرفين، هو وتيار بنشماش، بحيث علمت “أخبار اليوم”، أن اللجنة التحضيرية التي شكلها بنشماش، حصرت عدد منخرطي الحزب في 1700 عضو، فحسب، وهو رقم أقل بكثير من عدد الأشخاص الذين حضروا لكافة مؤتمرات “البام” منذ تأسيسه، والبالغ نحو 4 آلاف شخص. ويحاول تيار بنشماش إطلاق حملة لتسجيل منخرطين جدد في الفترة هذه، لملء هذه الفجوة. قضية أخرى وإن كانت ثانوية، تحولت إلى مشكلة بين بعض القياديين بهذا التيار، وهي تلك المرتبطة بالوثائق التي كان مقررا تقديمها للمؤتمرين، وكانت اللجنة التحضيرية قد أعدتها وانتهت من صياغتها. وكانت الوثيقة السياسية مثار نقاش حول مضامينها، فقد رأى البعض أن محتوياتها “لا تصل إلى المستوى المطلوب”، ويجب مراجعتها. كما أن أجزاء من مشروع القانون الأساسي للحزب كانت موضوع خلاف، بحيث إن المعايير الخاصة بانتخاب أعضاء المكتب السياسي كانت “رخوة”، وتوحي بأن الأمين العام المستقبلي قد لا يتحكم في تشكيل مكتبه السياسي. ذلك النظام ألغى في مشروعه وجود “المكتب الفيدرالي” من هياكل الحزب، وهي مؤسسة صممها الأمين العام السابق، إلياس العماري، لإضعاف مكتبه السياسي. عبداللطيف وهبي، العضو البارز في تيار “المستقبل” اكتفى بالقول ل”أخبار اليوم”، إن بعض ما ذكر أعلاه “لم يجانب حقيقة ما حدث في المناقشات الداخلية”، نافيا أن يكون هناك “ضغط خارجي” فرض التأجيل، مضيفا أن “تأجيلا إضافيا لشهر ونصف وشهرين أمر مفيد لعقد مؤتمر نوعي بدل أن نسقط في ما يشبه تجمعا انتخابيا”. وهبي ظل في خطاباته في اجتماعات ولقاءات التيار عبر الجهات، ينادي بالقطع مع مرحلة كان “البام” فيها حزبا للدولة، وتعهد بأن “المستقبل” سيضع نقطة نهاية لذلك. بيد أن هذه الخلافات أو تعدد الرؤى بخصوص المؤتمر، كان يجب أن “تحسم في وقت مبكر”، كما يقول قيادي في التيار، “كي لا يسمح لهذه التغييرات بالتأثير على معنويات أعضائه، أو التنفيس عن الاختناق الذي كان يعيشه الطرف الآخر”، ويقصد بذلك تيار بنشماش. وحتى يحسم قادة “المستقبل” أيا من الروايات ستصمد بخصوص تأجيل المؤتمر، فإن أنصار بنشماش يشعرون بالانتشاء مؤقتا من قرار تأجيل هذا المؤتمر، سواء أكان ذلك قرارا داخليا ذاتيا، أو مفروضا من جهات خارجية. خلخلة في “حزب الدولة” الخلخلة التي حدثت لتيار “المستقبل” بسبب قرار تأجيل مؤتمره، تلقي بآثارها، أيضا، على اتجاهات التفسير بخصوص ما إن كان “البام” ما يزال حزبا ترعاه السلطات، كما حدث منذ تأسيسه على يد فؤاد عالي الهمة، بُعيد خروجه من وزارة الداخلية عام 2007. كانت الخلافات بين بنشماش ومعارضيه دليلا ساعد على تشتيت الانتباه حول ما إن كانت هناك ضرورة وراء “البام” في المرحلة المقبلة، حيث تُظهر مؤشرات عدة بأن دعما شديدا قد منح لبديله: حزب التجمع الوطني للأحرار. ولم يستطع الكثيرون فهم ما إن كانت تلك الخلافات تدار بشكل مستقل، أو إن أطرافا داخل الدولة تحركها بتلك الطريقة بشكل متعمد لإضعاف هذا الحزب نفسه، كي يُفسح المجال للتجمع الوطني للأحرار في انتخابات 2021. وكان جليا بأن السلطات لم تكن قد حسمت رأيها مما يحدث داخل حزب الأصالة والمعاصرة، ورغم أن هذه السلطات أجازت مرارا لتيار المستقبل ولجنته التحضيرية، بعقد اجتماعات ولقاءات في أماكن عمومية، رغم إلحاح بنشماش على وزارة الداخلية منعها، إلا أنه كان من الصعب القول إن هذا التيار مسنود من لدن السلطة، خصوصا أن بنشماش كان يقود حربا ضارية ضده، وهو ما لم يكن ليحدث لو كانت لديه قناعة بأن السلطة بجانب خصومه. ولئن كان ذلك هو التصور التمهيدي، إلا أن تصديق رواية قياديين في تيار “المستقبل” بأن “جهات نافذة” نصحت بتأجيل المؤتمر، يعصف بكل ذلك التحليل القائم على زوال رابط الدم بين الحزب والدولة. وبشكل مؤكد، فإن تحليل عبد اللطيف وهبي بخصوص ذلك، كان خاطئا بالمرة. هذه النتيجة هي بالضبط ما يحاول وهبي الالتفاف عليها، وهو يحاول أن يقنع الناس بأن تأجيل المؤتمر- وقد كان هو مرشحا للأمانة العامة فيه – لم يكن مصدرها إلا خلافات داخلية، وقرارا ذاتيا محضا، لم تمسسه “جهة نافذة”.