وأخيرا عثر متعهدو الوساطات، وأصحاب مأذونيات اعتقالات سنوات الرصاص، وبعض لصوص المال العام، ومعهم كثير من المدونين والسياسيين والصحافيين والمحامين (أستثني الشخصيات الصادقة والمحترمة)… على أرضية تجمعهم في موضوع حراك الريف؛ لقد اتفقوا على شجب قرار معتقلي الريف الخمسة، المطالب بإسقاط الجنسية المغربية عنهم، وتذكروا –والمناسبة شرط- قصائد أحمد شوقي عن حب الوطن، بل إن بعضهم تحدث وكأن ناصر الزفزافي ونبيل أحمجيق ووسيم البوستاتي وزكرياء أضهشور ومحمد الحاكي باعوا جزيرة النكور إلى دونالد ترامب الذي يبحث، هذه الأيام، عن جزيرة للبيع، ثم كدسوا الملايير في اليخوت وطاروا نحو بنما. والحال أن الأمر وما فيه مجرد صرخة شباب في وجه من وزعوهم على السجون، ثم انتقلوا إلى الحسيمة ليغسلوا أيديهم ووجوههم في شواطئها. فهل يملك من اعتُقل وعُذب وحكم عليه ب20 سنة سجنا من أجل الوطن أن يتنكر لهذا الوطن؟ أليس ما قام به الشباب الخمسة شبيها بما قام به الرسام الإسباني الذي صدم بسيارته الواجهة الزجاجية لرواق كان يعرض فيه أعماله بنيويورك، ليقول للأمريكيين الذين تجاهلوه: «لقد تركتموني أواجه قدري وحدي»؟ ألم يقدم الزفزافي ورفاقه على هذه الخطوة إلا بعدما نفذوا كل ما طلبه منهم «الشناقة»، الذين فتحت في وجوههم أبواب السجون فدخلوها ليبيعوا المعتقلين الوهم مقابل الوعد بالتهدئة؟ ألم يقدم المعتقلون الخمسة على هذه الخطوة إلا بعدما خاضوا إضرابات طويلة عن الطعام، وخاط الزفزافي فمه؟ ألم يقدموا عليها إلا بعدما نوَّهوا بما يقوم به الملك، وتفَّهوا، في المقابل، ما تقوم به الأحزاب، ضابطين خطابهم على النبرة التي تحبها السلطة في المغرب؟ ألم يقدم الزفزافي ورفاقه على هذه الخطوة إلا بعدما كتب الكثير من المعتقلين وعائلاتهم طلبات العفو، وبعدما ناشد كل المعتقلين وعائلاتهم الأحرار في كل مكان لدعمهم لنيل حريتهم، دون أن يلتفت إليهم أحد في الدولة أو في المجتمع، سواء بالعفو أو بتشكيل لجان تضامن وازنة، تليق بالرجة الإيجابية التي أحدثها فينا حراك الريف، الذي أعتبره، شخصيا، أولى شرارات النسخة الثانية من الربيع العربي، قبل السودان والجزائر؟ ألم يقدم الزفزافي ورفاقه على هذه الخطوة إلا بعدما عجز البرلمان عن استصدار قانون للعفو العام، وبعدما أصبح العفو الملكي سرابا يطارده المعتقلون وعائلاتهم مع اقتراب كل عيد جديد؟ ما قيمة الجنسية إذا لم يُحترم حاملها؟ وأين كان متعهدو الوساطات، وأصحاب مأذونيات اعتقالات سنوات الرصاص، ولصوص المال العام، ومعهم كثير من المدونين والسياسيين والصحافيين والمحامين… عندما كلف المجلس الوطني لحقوق الإنسان لجنتين تضمان أطباء شرعيين، فحصوا وعاينوا واستمعوا إلى تصريحات ما يناهز ثلاثين من معتقلي حراك الريف، متفرقين بين الحسيمة والدار البيضاء، وخلص هؤلاء الأطباء الشرعيون، المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، إلى أن مزاعم التعذيب، التي جاءت في تصريحات المعتقلين، ذات طابع جدي، ويتعين إجراء تحقيق قضائي بشأنها؟ أين كانوا عندما فتحت النيابة العامة تحقيقين؛ واحد في ادعاءات التعذيب، وآخر مع الجريدة الإلكترونية التي نشرت فيديو الزفزافي عاريا (يديرها عامل سابق في وزارة الداخلية)، ثم أغلقت التحقيقين معا، فأغلق كثير ممن يهاجمون اليوم المعتقلين أفواههم. أين كان كثير من هؤلاء عندما جرَّدت أحزاب الحكومة معتقلي الريف من وطنيتهم، وجرَّدت السلطات الأمنية أو السجنية زعيمهم من ملابسه، وجرَّدتهم أمينة بوعياش من صفة المعتقلين السياسيين؟ إن الجنسية المغربية هي الأصل التجاري لمعتقلي الريف، وإسقاطها إسقاط لهم في هاوية النسيان؛ فما قيمة الزفزافي ورفاقه إذا نحن جردناهم من نضالاتهم السلمية من أجل كرامة المواطن الريفي، التي هي من كرامة المواطن المغربي، وضمنها المسيرة التي نظموها للرد على من اتهمهم بالانفصال. لذلك، فإن خلع الجنسية، في لحظة غضب، مثل خلع الرجل زوجته في لحظة يأس وغضب، لا تجوز. وهي صرخة شبيهة بالتي أطلقها توفيق بوعشرين، في لحظة يأس: «أصعب شيء يعذب السجين هو إحساسه بأن تضحياته تذهب سدى، ويبدأ صوت داخلي يقول له في ما يشبه التيئيس: لا يمكنك أن تساعد شعبا لا يرغب في مساعدة نفسه». لذلك، كان حريا بالذين وجدوها فرصة لإعطاء الدروس في الوطنية لمعتقلي حراك الريف، أن يوفروا مداد أقلامهم لصياغة اقتراحات شعبية للإفراج عن المعتقلين، بعدما فشل مقترح قانون العفو العام، وتعذر أمل العفو الملكي. إن خالعي الجنسية المغربية الحقيقيين، هم أولئك الذين يمتصون دماء المغاربة يوميا، وكلما أحسوا بالخطر يقترب منهم، حزموا حقائبهم، وأشهروا جوازاتهم الحمراء، وقطعوا البحر نحو أوروبا، مثلما حدث في 2011، وعلى رأس هؤلاء قياديو الحزب الذي اقتطعت له أغلب جماعات الحسيمة، والذين بعدما شتتوا المال العام على عشيقاتهم، ها هم يفضحون «سرقات» بعضهم البعض. لو كان الزفزافي ورفاقه، وأغلبهم شباب معوزون وعاطلون عن العمل، يسعون إلى تحقيق مصالح شخصية، لركبوا بدورهم الجرار ودخنوا السيكار.. لكن هذا لا يليق بحفدة مولاي موحند، الذين يمكن أن يغضبوا من الوطن، لكن من المستحيل أن يتاجروا به.