المغاربة شعب محافظ أكثر من الملكية، ومحافظتهم تعيق تطور الملكية وتحولها إلى مؤسسة تسود ولا تحكم. هذه فكرة يروجها الكثيرون، مغاربة وأجانب، آخرهم وزير العدل والحريات، محمد أوجار، الذي خرج يقول لوكالة الأنباء الإسبانية إن الملك محمد السادس هو أول المدافعين عن الملكية البرلمانية، لولا أن الشعب المغربي غير مستعد لهذا الأمر، لأنه شعب محافظ. لقد رتَّب أوجار، في حواره هذا، على «محافظة» المغاربة، نتيجتين هما: تأخر الوصول إلى الملكية البرلمانية، وعدم التساهل مع الحريات الفردية. لماذا؟ لأنه يعرف أن المحافظة وضدها، في هذين المجالين، ليستا، كما هو الشأن في الديمقراطيات العريقة، صادرتين عن فرز سياسي وفكري مكتمل، محافظ وتقدمي؛ ففي المغرب يمكن أن تجد حزبا –يدعي الحداثة- يدافع بحماس عن فتح النص الديني على قراءة تقود إلى المساواة في الإرث، أو تحمي العلاقات الجنسية الرضائية الحرة، لكنه أقل حماسا من الإسلاميين –المصنفين محافظين- في الحديث عن تحديث الملكية أو انتقاد بعض أشكال امتدادها داخل باقي الحقول، علما أن تحديث الدولة وفصل السلطات وتصليب المؤسسات، في سيرورة الديمقراطيات الغربية، كان سابقا على تحديث وتحرير العلاقات الاجتماعية والبين فردية. الحلقة المفقودة في ما يقوله أوجار، ومن يجارونه في الرأي، هي متى وكيف أصبح المجتمع المغربي محافظا، طالما أننا نعرف أنه كان، تاريخيا، من أكبر المجتمعات المتوسطية انفتاحا وتسامحا وتقبلا واستقبالا للآخر المختلف؟ أوجار يعرف جيدا أن المجتمع المغربي كان، فجر الاستقلال، عجينة مرنة في يد رموز المقاومة والحركة الوطنية والمؤسسة الملكية، حيث لم يتردد المغاربة في إلباس زوجاتهم وبناتهم لباسا عصريا ودفعهن للانخراط في الحياة العامة، أسوة ببنات محمد الخامس ومحمد بن عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني… ومثلما كانت اللامحافظة السياسية والاجتماعية خيار المكونات الوطنية، صارت المحافظة السياسية استراتيجية والمحافظة الاجتماعية تكتيكيا لدى الحسن الثاني لمواجهة خصومه الحداثيين، المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد، بالأساس. ولتوضيح هذا، أستأذن السيد أوجار في استدراجه إلى لعبة ذهنية، سأكشفها في نهايتها: هل تعرف يا وزير العدل، ومعك كل الحداثيات والحداثيين، أن «المرأة عورة في كل الأحوال، حتى لو كانت مرتدية الجلباب». إذن، «لماذا لا يُستنكر لباس المرأة المخل بالحياء»؟ وهل تعرف أن «الديانات التوحيدية الثلاث تدعو إلى غطاء شعر رأس المرأة»؟ أما بالنسبة إلى الذين يتهمون الإسلاميين بالخلط بين الدين والسياسة، ألا يعرفون أن «الدين والدنيا مختلطان، واليوم الذي تفرق فيه دولة إسلامية بين دينها ودنياها، فلنصلِّ عليها الجنازة مسبقا». لقد «أمرنا سبحانه وتعالى ألا نتنكر لدينه، وأن نجعل تعاليم دينه دستور حياتنا، فتنكرنا له سبحانه وتعالى حتى صار البعض منا يعتقد أنه يمكن أن يسوس البلاد وهو مفرق بين الدين والدنيا». لقد كان علينا أن نجعل الإسلام في صلب دراساتنا وبحوثنا كلها، بل أن نجعل دراساتنا وبحوثنا في صلب الإسلام، لكننا نرى كيف «أصبح الإسلام وتدريس الإسلام في الجامعات أو في المدارس الثانوية لا يعدو أن يكون دروسا لتعليم نواقض الوضوء ومبطلات الصلاة. فأين هو تحليل النظام الاقتصادي والاجتماعي والاشتراكي المحض، الإسلامي الصرف؟». إن مثل هذا الكلام قد يعتبره الكثيرون أصوليا، لكن هل يعلم هؤلاء أن «الأصولية في الإسلام، هي العودة إلى منابع الدين وتعاليم القرآن والسنة النبوية»؟ انتهت اللعبة. فهل تعرف، يا وزير العدل، الذي يعتبر أن المجتمع المغربي أكثر محافظة من المؤسسة الملكية، أن كل الكلام الذي وضعته بين مزدوجتين يعود إلى الحسن الثاني، الذي سبق له أن قال إنه سيحكم المغرب من قبره، والذي، بالفعل، رغم دستور 2011، لم نستطع التخلص من إرثه المعيق للوصول إلى ديمقراطية كاملة؟ طبعا أنت تعرف أن هذا الملك، الذي أغرق الملكية في التقليدانية والمحافظة، كان يعيش حياة ليبرالية عصرية، لكنه بدلا من أن يحمي الملكية، في ظل منافسة محلية وإقليمية شرسة من القوميين اليساريين، بديمقراطية ليبرالية حقيقية، أغرق المغاربة في المحافظة نفسها التي أغرق فيها الملكية، حتى إنه لم يتردد في استيراد الوهابيين من السعودية وتوطينهم، أو تجفيف مصادر إنتاج الفكر العقلاني (السوسيولوجيا والفلسفة)، أو إعاقة التنمية. ولعلك قرأت أن الحسن الثاني «كان ضد فكرة الطريق السيار المؤدى عنه، لأنه يظن أن من واجبه، بصفته ملكا للبلاد، أن يمنح رعاياه الطريق مجانا، وأن طلب مساهمة مالية من السائقين أمر ينتقص من قوته»، (هشام العلوي «Journal d'un prince banni»). وبعدما خرج منتصرا في صراعه مع الأحزاب الوطنية الديمقراطية، وكرس المحافظة المجتمعية والسياسية خيارا ثابتا، عاد ليضع القوى الوطنية الديمقراطية، وأغلبها متحدرة من تجارب تقدمية حداثية، أمام خيار وحيد؛ الاشتغال من داخل مربع سياسي محافظ. ففي المسألة الدستورية، مثلا، جعل الحسن الثاني أحزاب الكتلة تنتقل من المطالبة بانتخاب «مجلس تأسيسي»، مع ما يعني ذلك من سمو «الشرعية الشعبية» على أي شرعية أخرى، إلى تقديم «مذكرات لجلالة الملك» حول الإصلاحات الدستورية المنشودة، مع الدلالات القوية التي تحملها، أي التسليم بأسبقية «الشرعية التاريخية والدينية على الشرعيات الأخرى»، يقول مصطفى بوعزيز في أطروحته. هكذا، يا سيد أوجار، أصبح المغاربة ليس فقط محافظين، بل يفاخرون بالمحافظة كما لو كانت ميزة وقيمة.