طلب الملك محمد السادس من «اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي» أن «ترفع له الحقيقة ولو كانت قاسية أو مؤلمة، وأن تتحلى بالشجاعة والابتكار في اقتراح الحلول». أعرب الملك عن سعيه إلى معرفة الحقيقة في خطابه بمناسبة الذكرى العشرين لتربعه على العرش. هذه اللجنة الاستشارية ستمد ملك البلاد باقتراحات مفصلة وعملية بشأن النهوض بقطاعات مثل التعليم والصحة والفلاحة والاستثمار والنظام الضريبي. لا شك أن هذه اللجنة ستكون مشكلة من كفاءات رفيعة في تخصصات معرفية مختلفة كما أعلن عن ذلك الملك في خطابه وواضح، أيضا، أن تقريرها سيكون محط اهتمام بالغ. والحقيقة في حد ذاتها تثير إشكالات كبرى. فما الحقيقة؟ وهل من حقيقة؟ ومن يقول الحقيقة؟ وما شروطها؟ لكني سأضع هذه الاستفهامات الفلسفية جانبا. فلعل المقصود من قول الحقيقة في خطاب الملك هو كشف (الكشف بكل قوته الدلالية التي تقابل الستر) العراقيل الحقيقية التي تجعل البرامج والمشاريع والمخططات تتراكم بعضها فوق بعض بلا كبير أثر ولا ظاهر نفع. وعلى اختلاف السياق وغياب التكليف وضيق المساحة وطبيعة حيز الكتابة، أود رغم ذلك مشاطرة بعض «الحقائق» التي أراها تحول دون تحقيق نهضة البلاد. إنها حقائق شعورية لا أدري ما مدى مطابقتها للواقع أو خضوعها لاستشكالات الفلسفة، فليست من جنس الحقائق المسندة بإحصاءات ومؤشرات (تلك مهمة اللجنة على كل حال). إنها حقائق شعورية لن تتضمن التركيز على جانب السياسة. أقصد سأتخطى النقاش التقليدي الذي تثيره الخطابات الملكية والقرارات التي تتضمنها في ما يخص رسم البرامج والسياسات العامة أو قضية تقاسم السلطة بين المؤسسة الملكية ورئاسة الحكومة، وتحديد وترتيب المسؤولية عن النجاحات والإخفاقات… هذا إشكال متقلّب تحكمه الممارسة السياسية في تأويلها للوثيقة الدستورية وتمثل كل فاعل لأدواره. ما يهمني هنا هو تقاسم الشعور بالحقيقة أو قل حقائق شعورية وهي ست حقائق: أولا، المغرب إلى الآن لم يقدم ما يفيد ثباته على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. أزمات مالية وحالات إفلاس سجلت في صناديق ومؤسسات وطنية هامة وبرامج ولم تبلغ المحاسبة فيها درجة تترجم الحرص على المال العام والالتزام بهذا المبدأ. في حالات شبهات الاختلاس وتبديد الأموال العمومية يجب أن تأخذ المحاسبة شكل استرداد الأموال أو السجن إن تعذر ذلك. إلا أن ما يجري هو أن المحاسبة (سواء الإدارية أو القضائية) تُفعّل في حق صغار الموظفين بحدة أكبر مما تفعل في حق «المسؤول المغربي المدافع عن خطاب العرش» (انظر النقطة الموالية). و»الحقيقة»، أن المسؤولية إلى الآن، غير مرتبطة بعقد زواج رسمي بالمحاسبة.. ثانيا، هناك متلازمة «المسؤول المغربي المدافع عن خطاب العرش»، أي تلك الفئة من المسؤولين المنتشرين في أرفع مناصب الإدارة المنتجين لشتى أشكال الرداءة والسلبية وهدر الطاقات والذين يقفون، رغم ذلك، في طليعة المنوهين بالخطب الملكية. طبقة من حراس القراءات المتعسفة لأدوار الإدارة وأعمدة الريع والمحسوبية. و»الحقيقة» أن هذه الشريحة من المسؤولين هي الغالبة ولا غالب إلا الله.. ثالثا، توجد جماعات ضغط قوية مالية وسياسية ومهنية (مثل جماعات القطاع الطبي والتعليم الخاص) تدافع عن مصلحتها ضدا في المصلحة العامة وتحاول التأسيس –إن لم تكن أسّست- لنوع من الحصانة المطلقة لعمل أعضائها ومجال اشتغالها وتتحالف بينها مشكلة تجمعا مصلحيا أخطر يقتات من جيوب المغاربة. و»الحقيقة»، أن هذه الجماعات صارت اليوم ترهق الجميع وتفرض شروطها على الجميع باستغلال عامل «الندرة» وعدم التورع في «الابتزاز».. رابعا، هناك آلة إعلامية جبارة تؤطر شعب المواطنين المغاربة على قيم التملق والتزلف والرداءة وتصنع أجيالا بأحلام فارغة وتصورات متخلفة. يجب تفكيك هذه الآلة التي صارت صناعة خاصة وسلطوية بامتياز. أي يشرف عليها القطاع الخاص وتشجعها السلطة بالتغاضي والمكافأة. لأن الإعلام هو ما يحرك المشاعر العامة ويجعلها واعية بتحديات «المرحلة الجديدة» المنشودة. و»الحقيقة»، أن الإعلام الذي أريد له أن يُهيمن يجعل الرأسمال البشري مهووسا بالقبح والبؤس ومطبعا مع السلوكيات الهابطة.. خامسا، إن المشروع الوطني الجامع بحاجة إلى نقد أكاديمي وإعلامي ومؤتمرات ونقاشات خارج تلك المقررة رسميا أو المكلفة رسميا بصياغة الأجوبة. الحلول الأكثر نجاعة تتولد من هذا الصدام الفكري والنقدي في صياغة الحلول، تخرج من رحم المساحة الثالثة بين الأجوبة والأجوبة المضادة. و»الحقيقة»، أن حركة النقد التي تتخذ من تفكيك وتحليل السياسات العامة للسلطة محورا لها تتعرض للتهميش والوصم عوض الإشراك والاهتمام.. سادسا، مختلف مؤسسات الدولة بحاجة إلى توجيه ملكي، بل أمر ملكي صارم، بضرورة تبني فلسفة الحد الأدنى (minimalisme) في تحرير المشاريع. أي تدقيق الأهداف إلى أقصى حد وعدم التوسع فيها. هناك شعور عام لا أدري ما مصدره بأن المشروع أو البرنامج أو السياسة حتى تبدو «وجيهة» و»ذات قيمة» يجب أن تتضمن كثيرا من واوات العطف والمرادفات وشلالا من المنطلقات والأهداف والصيغ اللفظية الرنانة (النهوض وتحسين وتشجيع ومواكبة وتدعيم..). حتى عدد الوزارات وكتابات الدولة ومسمياتها في المغرب يعكس هذا الهوس بكثرة العطف والإطالة. و»الحقيقة»، أن كثرة الأهداف وتداخل العبارات و وتناسل الأهداف والأهداف الفرعية والمرحلية مظهر للتخلف.. واضح أنه ما كان لي هذا المقال أن يفصل هذه النقاط لو ظل حبيس السؤال التقليدي حول توزيع السلطة والمسؤولية داخل الدولة. التعديلات المرتقبة ستكون باقتراح من رئيس الحكومة واللجنة المعنية بالنموذج التنموي استشارية وبعيدة عن أن تكون بمثابة حكومة ثانية ومهمتها محددة في الزمن بصريح نص الخطاب. الخطاب الملكي خطاب منتج وقوي وواضح الدلالات. والملك، كما يشير إلى ذلك الأستاذ محمد الطوزي في حوار حديث، غير مسؤول عن قراءة الفاعلين السياسيين للقواعد التي تضبط سير المؤسسات. فماذا علينا نحن لو تأولت الأحزاب الخطاب بغير ما في نصه؟