في أحيان كثيرة، نشعر بالتذمر والغبن من شح التشجيع أو غيابه التام لنا ونحن نشق طريقنا في رحلة عطاء بمهنة من المهن، أو صنعة من الصناعات أو عمل يجلو العتمة عن قلوبنا. ونحن في محاولة لتحقيق الذات، كيفما كان حجم وطبيعة هذه المحاولة. نميل في البدء إلى الإلقاء باللائمة على الدولة. الدولة التي لا تشجع ولا تدعم ولا تفعل كذا ولا تصنعُ ذاك. لكن الأمر في الحقيقة أكبر من جهاز إداري بيروقراطي ومتعسف تاريخيّا يُماطل في دعم فكرة أو جهد فرديّ مبدع. بتمهّل وتفكر، نجد أنه نزوع مستقر في الأنفس والأمكنة والأجواء. آلة متعسفة ماحقة متداخلة الشُعب ظلت تصنع أجيالا بحساسية نفسية قاتلة من المبادرات “الغريبة” و”المختلفة” و”الحالمة” ومن حامليها. هل نشعر بالأمان حين يخفق الجميع؟ هل يقدم الإخفاق الجماعي ملاذا آمنا لأرواحنا المسحوقة؟؟ أم هل تأليه الذات الذي تغذيه شبكات التواصل الاجتماعي يجعلنا لا نقبل بمشاريع متفوقة قد تأخذ منا علامات الإعجاب وتحيل صورنا الجميلة وأزياءنا المتأنقة صورا شاحبة بلا بريق؟ ليس الذنب في الحقيقة ذنب ذلك الصديق الذي لم يدعمك ولو بكلمة صغيرة. ليس ذنب تلك الصديقة التي تقضي وقتها في تسفيه جهودكِ وإنجازاتك، ولا ذنب تلك الجماعات الصغيرة التي تشتغل كلوبيات ضغط شريرة في عدد من الإدارات والشركات لقتل الفسائل الصغيرة. إنها تلك الآلة الماحقة، آلة تنشئة تربوية واجتماعية مخلوطة بالقهر والظلم صنعتنا بهذا الشكل. نُفكر آلاف المرّات قبل تشجيع إنسان يعاند الحياة بأفكار جديدة، ندير ألسنتنا داخل أفواهنا كثيرا قبل النطق بعبارات من مثل: “ممتاز ما تصنعه/ جهد جبار فعلا/ رائع/ لا تقف، واصل”. المدرسة كانت تكافئ الفرد. هناك جماعة ضالة كسولة وفرد لامع. والجماعة تكره الفرد. والفرد يعاني مع هذه الجماعة التي سيجدها غدا في كل مكان. سيصُادفها في أماكن عدة في رحلة حياته وستحرص على أن تحطمه في كل واحدة من تلك المراحل. كنوع من المقاومة غير الشريفة سيلوذ الفرد بالغرور والتكبر وتحويط نفسه بحيطان من التعالي والتأفف واحتقار البقية. وتبدأ المعركة. جماعة تكسر وتحطم ولا تعترف بكل فرد مبدع فيها نقمة عليه، وفرد لا يعترف برأي الجماعة المتخلفة التي هيهات، في نظره، أن تبلغ مرتبته. لتكون النتيجة تفشي العدوى البغيضة بلا رادع: نفسية تحطيم متبادل شامل لكل شيء. وتكفهر الأجواء وتسيطر عادة تهشيم الجميع للجميع. مدارسنا لم تشتغل إلا حديثا وبشكل محتشم بنظام الفرِق والمجموعات ولم تدري كيف توازن بين مواهب الأفراد وقدرات الجماعة. تحب الجماعة الفرد إذا رأته قاطرة لها تجرها للأمام. لذا مثلا نحب كثيرا العدّائين والرياضيين. نحب من يرفع راياتنا في المنافسات بين دول العالم. نرى في العدّاء نجاحا لنا كلّنا. نفتخر به حين “يتسلّل” إلى درب النجاح في غفلة منا. لا نمانع أن يخطف من شعوب أخرى الريادة. لكن حين كان ذاك العدّاء يخطف الريادة هنا في بلادنا، في المضمار الوطني، فلا أحد كان يلتفت لجهده وتصميمه. هزيمة الفرد هي الأساس. وقس على ذلك، كفاءات تعيش شاحبة هنا وتزهر هناك.. إنه وضع صعب. جفاء نفسي عام إزاء الآخر، إزاء ذاك الفرد المبدع الذي يصنع قطعا فنية جميلة أو يكتب قصصا جميلة، أو يخرج أفلاما قصيرة مبدعة، أو يحاول تأسيس مقاولة في فرع جديد من الأعمال، أو يحاول أن يحاول وكفى! على كل هؤلاء أن يقاوموا محاولات التهشيم النفسي المتكرّرة، ضربات الجماعة القاصمة إن هم أرادوا النجاح. عليهم تخطّي حاجز نفسي كبير بناه فينا نظام سياسي قاهر. نفسية مقهورة تعيد إنتاج القهر بألوان الطيّف. وأحيانا يتعقد هذا الوضع النفسي أكثر. فمن فرط ما تشابكت عوامل التاريخ النفسي القاهر والتربية المعطوبة مع “دسائس” الزملاء وحروب العُصَب (les cliques) في الشركات والإدارات بمشاعر طلب المجد والشهرة في شبكات التواصل، قد يكون التشجيع، لو بادرتَ به، سببا في العتب عليك. مرُرت بقصص لأشخاص استاؤوا من آخرين قالوا فيهم عبارات جميلة. “من يظن فلان هذا نفسه حتى يتجرّأ على تقييم مستواي وأعمالي؟! أيظن أنه أرفع مني؟”. طورّت أنفسنا حساسية مرضية من مثل هذه العادات الحميدة. هل من حل؟ لا يمكن إدخال شعوب بأكملها – أو على الأقل فئات عريضة منها – إلى عيادة الطب النفسي للعلاج. لكن بالإمكان أن تحرّر نفسك. يمكنك أن “تغامر” بكلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء..