السؤال وحده يمكن أن يجنبنا الخوف، إن لم نقل أنه وحده يعبر عن مخاوفنا. الهام ملهبي إحدى المدونات المواظبة على الكتابة يوميا كتبت تقول: “نحن نخاف كثيرا، نخاف من ذواتنا و من حقيقتنا، نخاف أن يكتشفنا الآخرون، نخاف من المستقبل، نخاف أن نتعرض لأذى، نخاف حتى الأمراض .... كل واحد منا ينشر نصيبه من الخوف في هذا الفضاء، لذلك العالم مشحون بالخوف، ألا تحسون به يتربص بنا من كل جانب؟" وفي تعليقه على هذا الكلام يقول محمد: “صباح الخير.. الخوف هو الأصل، والشجاعة تأتي بعد.." وردت عليه بقولها: “صباح النور محمد، إن كان الخوف هو الأصل فهذا يعني أننا كائنات اضعف مما نتصور بكثير / أنا لم اقصد الخوف بالمعنى المقابل للشجاعة، ربما المقابل له هنا هو الثقة بالحياة.. نحن نخاف الحياة ونعتقد مع ذلك أننا نصنعها". وتختم حوارها مع بعض زملائها قائلة: " إنسان الكهف كان أشجع منا ربما وكانت ثقته بحياته أكبر، الحضارة وحش كبير". يمكن أن نقول الكثير عن هذا الكلام. فالخوف مركب[1]. تحدد مدونتنا إلهام الخوف في: - من ذواتنا و من حقيقتنا - من أن يكتشفنا الآخرون - من المستقبل - من أن نتعرض لأذى، - من الأمراض .... وتستدرك أن المقصود بالخوف هو عدم الثقة بالحياة.. التي نعتقد رغم ذلك أننا نصنعها. صحيح أن الخوف الذي ننشره يوميا في محيطنا، هو متعدد المصادر ومتنوع الأشكال. وتعجبني كثيرا العبارة البليغة التي ترى فيها أن مقابل الخوف ليس هو الشجاعة وإنما عدم الثقة بالحياة. ويصح في هذا المقام القول أن لا سبيل لنزع الخوف إلا بالثقة في الحياة، وفي الذات أولا قبل كل شيء. لأن الذات هي التي تصنع الحياة. ومما لا شك فيه أن المسألة تتجاوز الاعتقاد بأننا صناع الحياة فقط، بل يجب الجزم أننا فعلا نصنع الحياة، لأننا نحبها كثيرا ونعشقها. فإذا كان المتأسلمون يعشقون ويحبون ويتطلعون إلى الحياة الآخرة، فإن الحياة الدنيا أولى من الآخرة. ولا يمكن أن نلخص كل أعمالنا في الدنيا بالتطلع وراء الجنة الموعودة. الإنسان عموما يساهم بهذا القدر أو ذاك في صنع حياته كما يساهم في بناء ذوات أخرى. إنه بعبارة وجيزة فاعل حقيقي في الوضع البشري المحيط به: البعيد والقريب. ولا يمكن نكران هذه الفاعلية التي تمثل أنبل وجوهر الوجود البشري. لذا أقول أن الثقة في النفس أولى من الثقة في الحياة، لأن الحياة في نهاية المطاف لا نختارها ولا نحددها بل تتحدد بمجموعة الشروط التي توجدنا. ولكننا نختار طريقة التأقلم مع وجودنا. ونختار سلوكاتنا في معظمها. جميعنا يتذكر النقاش الذي أسست له الوجودية الفرنسية فلسفة سارتر بشكل كبير وتحديدا السؤال الجوهري: من يسبق الآخر: الوجود أم الماهية؟ كان جواب سارتر واضحا وعميقا: الوجود سابق على الماهية. فنحن مجرد مشروع Projet يعاش بكيفية ذاتية. مشروع يحدده كل واحد منا، وإن كان هذا المشروع محاطا بالنماذج التي تقدمها التنشئة الاجتماعية سلفا. هذه الفاعلية هامة جدا بالنسبة لي لتأسيس وعي عميق بقيمة الفرد والجماعة معا. فالتفاعل بين الفرد والجماعة ضروري على الرغم من كون الجماعة في معظم الحالات تفرض قوانينها وضوابطها الثقافية والأخلاقية لهكذا تنشئة اجتماعية لا نختارها. ولكننا نستطيع التأسيس لقيم جديدة وتحديد اختيارات قد تتعارض في بعض الأحيان مع الجماعة. الخوف والحضارة “الحضارة وحش كبير". صحيح أن التقدم الهائل الذي حققه البشر في طرق العيش والتواصل، لم يتم بشكل فجائي ولا هو هبة من قوى غيبية. بل هو تقدم تاريخي حصل بفعل التضحيات جراء الصراع الذي خاضه البشر ضد الطبيعة من جهة، وفي خضم التناقضات الاجتماعية بين البشر والبشر من جهة أخرى. صارت الحضارة وحش بفعل قدرتها على تغيير أنماط العيش والسلوك والتصرف والفعل أيضا. فكل واحد منا يحس بالغربة وراء هذا التقدم، فالتجربة الفردية والفاعلية الذاتية صارت حبة رمل وسط كتبان في صحراء قاحلة. ولكن تلك الحبة قادرة على قلب المعادلة (دور الفرد في التاريخ). الإحساس بالغربة هو في حد ذاته شعور بالخوف، شعور بالمجهول. وانعدام للثقة في النفس. لذلك يستحسن التعظيم من الفاعلية الذاتية بما هي جزء من الفاعلية البشرية. ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعمل على نزع الخوف. فالحضارة رغم ذلك تبقى بسلبياتها مكتسبا يتوجب الحفاظ عليه. الخوف من الآخر سبب الخوف من الآخرين مصدره كما أشرنا في مواضيع سابقة هو التنشئة. هو تلك التمثلات التي تقدم لنا وكأنها أيقونات جاهزة يتوجب الركوع أمامها. فالعديد من أنماط الصور تظل محفورة في الذاكرة الشعبية. وتعتبر الركيزة الأساس للثقافة الشعبية وللوعي الشعبي. وتهدف هذه التمثلات إلى تحصين الذات. فكل الشرور في الاعتقاد العامي مصدرها الآخر. وكأن الذات في طهرانيتها بعيدة كل البعد عن الشر. الخوف من الآخر نابع من وجهة نظرنا من اكتشاف الذات. إذن هو في نهاية التحليل خوف مما نحن عليه. خوف من واقعنا وصورتنا الحقيقية. فعادة ما نرسم لأنفسنا صور نمطية نعيها تمام الوعي، وهي صور معكوسة. وهذا هو مصدر الوهم كما عبر عن ذلك نيتشه: “الحقيقة أوهام نسينا أنها أوهام". في معرض معالجته لثنائية الخير والشر، يوجه نيتشه سهام نقده نحو القيم الأخلاقية، ويدس بمطرقته على الأخلاق البائدة، على كل ما هو قادم من الأديرة. وهو يعمل على هدم ثقافة الأديرة (ثقافته الأم) التي يمقتها. والوهم في نهاية المطاف يتم عن وعي سابق، وليس عن جهل مطلق، وهنا مكمن التمايز بين الخطأ والوهم. فإذا كان الخطأ نابعا من جهل مطلق ومن ثمة يسهل تجاوزه، فإن الوهم نابع من الوعي بالوهم، لذلك يصعب تجاوزه. هذه الأوهام المحيطة بنا، والتي نكونها بأنفسنا عن ذواتنا. آن لها أن تزول، ولا يمكنها أن تزول إلا بالاعتراف بالآخر وبتعظيم دوره وأهميته: فهل يمكنك أن تعيش وحيدا في عالم معزول Isolé؟ يقودنا هذا السؤال على الرغم من سذاجته إلى سؤال آخر: هل يمكنك أن تصنع عالما بمعزل عن الغير؟ حتما سيكون عالما أصم، عالما من الدمى المتحركة. إذن لما نخاف من الآخر؟ إن الخوف من الآخر نابع من عدم قدرتنا على الخروج من العالم الفردي، من نرجسيتنا المفرطة، التي نكبر بها ومعها. فالاعتراف بالغير والتعايش معه، يشترط نزع الخصوصيات وتقاسم ما نعتقده أنه لنا وحدنا. فهل ثمة من شيء يمكنه أن يكون للفرد وحده؟ لا شيء على الاطلاق. إن الاعتقاد بأن لنا شيئا نتملكه وحدنا، يعود إلى عدم تقدير مجهود الآخر، أو بعبارة واضحة: “نكران للجميل". فما يسمى في الثقافة الشعبية : “سرا". هو في حقيقته ليس كذلك. ما دام أمر السر يخص ذاتين أو أكثر. يخص تجربة ذاتية في علاقة بتجارب الآخرين. والسر قد انكشف لحظة سميناه سرا. ويقال عادة: “احتفظ بهذا السر". أي سر؟ سر فشل التجارب. وسر فشل الذوات. سر انكشاف الحقيقة وتبدد الوهم. هذا ما نسميه بالسر. مع تطور الحضارة التي غذت وحشا كبيرا، أو “شرا لا بد منه" أصبح التمدن حالة لا تطاق. حالة تعمها الفوضى، ويملئها الخوف. حالة عنف مستمر في كل لحظات الوجود الفردي والجماعي. وهذا هو حال المدن الكبرى التي لا يحس فيها الفرد بالأمن. وهذا أمر واقع: كيف يمكنك أن تضمن أمن الأفراد في مجتمع لا يعترف إلا بسلطة المال؟ ولا يهتم إلا لأمر أشخاص بعينه دون الآخرين؟ تصور نفسك في مدينة بحجم البيضاء في المغرب: في طفولتك تستهلك وتتابع بشغف طفولي بريء مئات الأفلام الكارتونية المليئة بمشاهد العنف. وحينما تكبر قليلا تصبح تلك المشاهد حقيقية. أمرا واقعيا. بين الحين والآخر تعيش أفلام العنف في الشارع العام: في كل حي ودرب. أهذا قدرك أيها الإنسان؟ أبدا. إنه وضع بشري يقبل التغيير ويمكن أن يتغير. تتابع دراستك في التعليم العالي، وتتعلم ثقافة قراءة الجرائد في المقاهي: لن تجد فيها غير صفحات حول الجرائم والقضايا المجتمعية. إلى درجة تخال نفسك وسط غابة وليس مجتمعا بشريا تسيره افراد من أمثالك. كل هذا هو ما سميناه صناعة الخوف. إذن من يتربص بنا ويحدد ما نستهلكه ويزرع فينا الخوف؟ أكيد جدا أن صناعة الخوف، غذت خيارا استراتيجيا للقوى الامبريالية التي تعمل في جميع الجبهات لتكريس ثقافة الخوف والعنف. فالعنف يولد حالة خوف من المجهول. خوف من الذات والآخر والعالم. ويراد منها بالطبع زرع فقدان الثقة. لأنه خيار يجعل الرأسمالية منتصرة دوما. لم يبلغ مجتمعنا المغربي بعد مرحلة المجتمعات الصناعية حيث التخطيط يأخذ مجراه نحو صناعة الخوف المنظمة والموجهة نحو أهداف استراتيجية محددة. ولكن رغم ذلك فكل خطط الخوف في مستوياتها جميعا تتوجه صوب تكريس الاستبداد السياسي للحفاظ على المصالح المباشرة للمستبدين وأذنابهم. والخوف من المستقبل: كرست حركة 20 فبراير، مسألة في غاية الأهمية. فقد تمكنت الحركة من نزع الخوف. وأصبح المواطن المغربي يعبر بكل جرأة عن ظلمه وقهره الاجتماعي والسياسي بكل الوسائل. أبدعت الحركة اشكالا متنوعة من الاحتجاج وشجعت الحركات الاجتماعية على اقتحام فضاءات كانت بالأمس من المقدسات، ورفعت من النقاش السياسي مستوى الخطوط الحمراء. هكذا فتحت المجال واسعا ورحبا عنوانه العريض: أنا مخايف، أنا مبقيت خايف. يحمل هذا الشعار الذي حملته الحركة ولا تزال منذ بدايتها، العديد من الدلالات. فهل فعل يمكن الحديث عن انعدام الخوف؟ أو عن نهاية محتملة للخوف؟ من وجهة نظر ضيقة. نعم. لقد زال الخوف. ولكنه لم يستأصل من جذوره. فلا تزال جذوره قائمة. ولا يمكن الحديث عن نهاية الخوف إلا بتحقيق تغيير سياسي يوازيه وعي عميق بالوضع البشري المنشود. في نفس الوقت يبدو لي أن الخوف من المستقبل أعمق من الخوف من الحاضر. فالخوف من المستقبل تغذيه واقع الممارسة السياسية التي تطبع هذه البلدان العربية. ممارسة فاسدة وسلفية وبرغماتية. لأن المستقبل مفتوح على المجهول. لا أحد يمكنه أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأمور. والواقع أن الخيارات المتعددة المرتقبة من التغيير المنشود متعددة وليست كلها واحدة أو ذات نفس حداثي، عقلاني يمتح من ثورة فلسفية حقيقية تستجيب لنداء العقل، ولمنطق التطور التاريخي الذي يفرض حتما التأقلم مع العصر، فلا تزال هناك جراثيم سلفية تتربص بمستقبل هذه المناطق، ومما يزيد التخوف مشروعا هو الزواج القائم بين “الاصوليات"[2]: أصولية رجعية سلفية متأقلمة ومنغرسة في هذا الواقع. وأصولية الراسمال العالمي الذي لا يعرف غير المنطق البرغماتي. فالعماء السياسي قد يبلغ حد التهور: لأن المصلحة الذاتية أولى، من أي اعتبار. وما البشر اليوم بحسب هذا المنطق إلا أرقاما للعبة. لا نقول بنظرة تشاؤمية أن المستقبل مجهول، ولكننا نخاف حتى من ذلك المستقبل المعلوم الذي يرتبط ببرامج سياسية وبخلفيات ايديولوجية لا تقبل السجال. وتتقدم لتفرض رؤاها بقوة السلاح. فلقد آن الأوان أن نطرح السؤال: أي مستقبل نتطلع إليه؟ أي ديمقراطية نريد؟ وأية حرية؟ وأي مستقبل ممكن للمغرب؟ [1] - أنظر مقالنا السابق “صناعة الخوف"، بالمدونة: 20philo.wordpress.com [2] - بتعبير طارق علي: “صدام الأصوليات".