ماذا يجب على كتاب الرواية السياسية أن يفعلوه كي يصبحوا أكثر إثارة للاهتمام؟ هذا الفن ليس سهلا، فهو يحمل رسالته في ذاته. رسالة ممتعة بقدر ما هي خطرة. في هذه السلسلة، يحاول الكاتب أن يؤسس لتصور حول مشروع للطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الرواية السياسية. وفي العصر الإسلامي كثر شعر مدح الرسول صلى لله عليه وسلم بوصفه قائد وملهم الأمة الإسلامية، والحاكم الذي أخرجها من تناحر وتنازع القبائل وسيادة القبلية العصبية، إلى الأمة الواحدة الموحدة تحث راية الدين الإسلامي. ونقرأ في هذا المقام شعر المديح النبوي وما قاله عبد المطلب إبان ولادة محمد صلى لله عليه وسلم، إذ شبه ولادته بالنور والإشراق الوهاج الذي أنار الكون سعادة وحبورا، يقول عبد المطلب: وأنت لما ولدت أشرقت ال * أرض وضاءت بنورك الأفق فنحن في ذلك الضياء وفي * النور وسبل الرشاد نخترق وتعود أشعار المديح النبوي إلى بداية الدعوة الإسلامية مع قصيدة “طلع البدر علينا”، وقصائد شعراء الرسول (صلعم) كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد لله بن رواحة، وكعب بن زهير صاحب اللامية المشهورة: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم إثرها لم يفد مكبول وقد استحقت هذه القصيدة المدحية المباركة أن تسمى بالبردة النبوية؛ لأن الرسول (صلعم) كسا صاحبها ببردة مطهرة، تكريما لكعب بن زهير، وتشجيعا للشعر الإسلامي الملتزم الذي ينافح عن الحق، وينصر الإسلام وينشر الدين الرباني. والأساسي في هذا الإشعار هو سعي الشعراء إلى الإفصاح عن موقفهم السياسي من القيادة الرشيدة للرسول (صلعم)، والتفنن في مدح شخصه، وخصاله وبشكل عام يمكن اعتبار المديح النبوي بأنه هو ذلك الشعر الذي ينصب على مدح النبي (صلعم) بتعداد صفاته الخلقية والخلقية والإشادة بغزواته وصفاته المثلى. وبعد وفاة الرسول (صلعم) وبروز مشكلة الخلافة ظهر مجموعة من الشعراء، واكبوا هذه القضية السياسية، وعملوا على رثاء الخلفاء الراشدين باعتبارهم قادة سياسيين كان همهم الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، والتصدي لعدوى العصبية القبلية. وإذا كان الرثاء يرتبط بالحزن والأسى على المرثي فإنه اتخذ أبعادا أخرى جعلته يفرز نوعا من الرثاء السياسي، وهو الرثاء المقرون بذكر الصفات السياسية للمرثي من عدل وإنصاف ورحمة. فالإسلام جاء بمفاهيم سياسية جديدة، منها: مفهوم الإمارة (أمير المؤمنين) الإمام خليفة لله والعادل وغيرها فرثاء الخلفاء جاء على خلفية اعتبارهم المكلفين بنشر الرسالة السماوية إلى الإنسانية جمعاء. وهكذا نجد حسان بن ثابت يرثي الخليفة عمر بن الخطاب رضي لله عنه، اذ يقول: وفجعنا فيروزُ لا درَّ درهُ … بأبْيَضَ يَتْلُو المُحْكَمَاتِ مُنِيبِ رؤوفٍ على الأدنى غليظٍ على العدا … أخي ثقة في النائباتِ نجيبِ متى ما يقلْ لا يكذبِ القولَ فعلهُ … سريعٍ إلى الخَيْرَاتِ غَيْرِ قَطُوبِ فرثاء حسان بن ثابت بدأ بالتفجع والحزن، وذكر صفة من صفات المرثي، ألا وهي نقاء العرض والرأفة بالرعية والحفاظ على تلاوة الذكر الحكيم. ونجد للناقد احمد الشايب في كتابه تاريخ الشعر السياسي تعليقا على هذه الأبيات التي يصفها بأنها: “خير ما صور حكومة عمر وسياسته في الرعية فهو صدوق وبارع في فعل الخيرات. كما أنه ذو بأس شديد على الأعداء لا تأخذه في الحق لومة لائم”. وإذا انتقلنا إلى العصر الأموي سوف نجد بأن الشعر السياسي سيتخذ منزلة مرموقة. و لعلّنا لا نعدو الحقيقة إذا ما ذهبنا إلى أنّ الأدب السياسي الذي أثمره الصراع في العصر الأموي أضخم تراثٍ سياسيٍّ في الأدب العربي منذ نشأته إلى العصر الحالي. ففي هذا العصر ظهرت أحزاب سياسيّة. كانت تمزج السياسة بالدّين لأنّ محورها الذي تدور حوله هو الخلافة، وهي منصب سياسيٍّ دينيٍّ، ولأنّ نظام الحكم كان قائماً علي الدين، يعتمد عليه، ويستمدّ منه أحكامه وسلطانه. ورسالة الشعر السياسي في هذه المرحلة التاريخية هي مسايرة هذه الدولة في تكوينها الدّاخلي، وسلطانها الخارجي، وحروبها الأهليّة، وأحزابها السياسيّة. والشعراء الذين نظموا في الشعر السياسي في العصر الأموي كثر، وقد برّز عدد منهم من الجانب الذي أكثر النظم فيه، فكان الكُميْت بن زيد الأَسَديّ من أبرز شعراء الهاشميين، في حين كان الأخطل وجرير والفرزدق من أبرز شعراء النقائض (وهو الشعر الذي يهجو فيه الشاعر شاعرا آخر، أو أن يفتخر بنفسه أو بقومه أمامه بقصيدة على بحر معين وقافية محددة وروي ما، فيرد عليه الشاعر الآخر على نفس البحر والقافية والروي بقصيدة من نفس الموضوع، ولكن يضمنها هجاء معاكسا وفخرا يلغي فيه فخر الشاعر الأول بنفسه وينفيه). ونستشهد بالأبيات الشعرية للشاعر الأموي الكميت بن زيد الأسدي والتي يمدح فيها الهاشميين. طَرِبتُ وما شَوقاً إلى البِيضِ أَطرَبُ ولاَ لَعِبَاً أذُو الشَّيبِ يَلعَبُ ولم يُلهِنِي دارٌ ولا رَسمُ مَنزِلٍ ولم يَتَطَرَّبنِي بَنضانٌ مُخَضَّبُ وَلاَ أنَا مِمَّن يَزجرُ الطَّيرُ هَمُّهُ أصَاحَ غُرَابٌ أم تَعَرَّضَ ثَعلَبُ ولا السَّانِحَاتُ البَارِحَاتُ عَشِيَّةً أمَرَّ سَلِيمُ القَرنِ أم مَرَّ أَعضَبُ وَلكِن إِلى أهلِ الفَضَائِلِ والنُّهَى وَخَيرِ بَنِي حَوَّاءَ والخَيرُ يُطلَبُ إلى النَّفَرِ البيضِ الذِينَ بِحُبِّهم إلى لله فِيمَا نَابَنِي أتَقَرَّبُ بَنِي هَاشِمٍ رَهطِ النَّبِيِّ فإنَّنِي بِهِم ولَهُم أَرضَى مِرَاراً وأغضَبُ فكان لشعر الكميت بن زيد الأسدي دور سياسي كبير في تعريف الناس بالنزعة الوحشية التي جُبل عليها الأمويون وابتعادهم عن كل القيم الإنسانية والأخلاقية وخروجهم من الإسلام، كما أن شعره عرف بالهاشميين ودافع به عن أحقيتهم في الخلافة.