يحتاج قرار العفو الملكي عن 107 من معتقلي حراك جرادة والريف إلى وقفة تأمل خاصة، فالأمر في حقيقته يعكس أسلوب دولة في التعاطي مع هذا الملف، كما يعكس، أيضا، الشكل الذي تفكر به. قبل الخوض في تفاصيل القرار، ودلالاته وإشاراته، لا بد من التذكير بالقواعد التي كانت تدير بها الدولة هذا الملف، والتي تأرجحت بين ثنائية تثبيت هيبة الدولة وفرض احترام سلطتها، وبين بحثها عن خيارات للتهدئة، حيث انتصر وقتها منطق هيبة الدولة على منطق المصالحة، بحجة أن أي مصالحة في تلك الشروط كانت تعني – في تقدير الدولة- ليس فقط، تغول حراك الريف وخروجه عن دائرة الانضباط، ولكن، أيضا، تأسيس شروط اندلاع حراك اجتماعي شامل تقف الدولة عاجزة أمام التعاطي معه. قرار العفو الذي تزامن مع عيد الفطر يحمل معه تحولات مهمة، لكنها في الجملة تنطلق من دائرة مصالحة من موقع هيبة الدولة. ما يؤكد ذلك ثلاثة مؤشرات أساسية: أولها أن الدولة هي التي قررت شكل العفو وموعده وحجمه، إذ اختارت التوقيت الذي ضعف فيه الزخم المطالب بالمصالحة، وهو أسلوب معروف عن الدولة، يجنبها أي قراءة تنسب القرار للخضوع لضغوط، ويؤكد في المقابل كونها وحدها الممسكة بالموضوع القادرة على التصرف فيه وفق رؤيتها وتقديرها. ثانيها، أن القرار أنهى بشكل كامل موضوع معتقلي جرادة، وأبقى على جزء مهم من موضوع معتقلي حراك الريف. قراءة هذا التمييز بين الملفين من جهتين: أنه محاولة لعزل حراك الريف عن أي حراك آخر، وتعبير عن رغبة في فك الارتباط في تصور الرأي العام بين حراك جرادة وحراك الريف، حتى لا يستقر في تمثلات الناس ووعيهم أن حراك الريف هو تعبير عن أزمة في السياسة، وأن حراك جرادة هو أحد تعبيراتها وتداعياتها. ثالثها، أن القرار قسم معتقلي الريف إلى قسمين، على عادة التدابير السلطانية، التي تميز في تعاملها مع الفتن، بين القادة والزعماء، وبين الأتباع والعاطفين، لكن ليس بالمنطق التقليدي عينه، الذي يروم التأديب وسحب الثقة من الزعماء، وإنما بمنطق سياسي جديد، يسعى إلى تثبيت عنصر هيبة الدولة من خلال إعطاء إشارة للانفراج لحفز الجمهور على التعلق بتباشير المصالحة الآتية من الدولة. ومهما تكن قواعد تفكير الدولة وأسلوبها في إدارة الملف، فيبقى لقرار العفو إشارة أخرى مهمة، فمهما حمل القرار من حيثيات تؤكد إمساك الدولة بالملف، وإدارتها الحصرية لتفاصيله، وتحكمها في شكل وتوقيت ونوع المصالحة المأمولة، إلا أنه في الجوهر يكشف حاجة الدولة عينها إلى المصالحة، وخشيتها من أن تغلبها هذه الحاجة، فتعيق التدبير الأمثل لها. مضمون هذه الإشارة للتفصيل، أن الظروف التي يمر منها المغرب، والسياق الدولي والإقليمي الملتهب، تجعل الدولة تحتاج أكثر إلى المصالحة ورص للجبهة الداخلية، وتماسك جميع مكوناتها، وتحتاج إلى إعادة تجديد مختلف عناصر الشرعية، لمواجهة التحديات الخطيرة التي أفرزتها التحولات السياسية الإقليمية والدولية. معنى ذلك، أن الرسالة المهمة التي ينبغي أن نقرأها في قرار العفو أن مسار المصالحة انطلق، وأن الدولة تريد أن تديره بنفسها من غير خضوع لأي ضغط أو مزايدة، وتريد أن تتحكم في أجندته، وأن حاجتها إليها، وإلى إطلاق انفراج سياسي وحقوقي واسع، هو أكبر من حاجة الحقوقيين والسياسيين، بل وأكبر حتى من حاجة المعتقلين وعوائلهم التي تنتظر الإفراج الشامل عن قادة معتقلي الريف. هل معنى ذلك حتمية الإفراج عن بقية قادة حراك الريف وعن الصحافي المقتدر توفيق بوعشرين والصحافي حميد المهداوي؟ لا شيء حتمي في السياسة، لكن منطق الدولة في تعاطيها مع مثل هذه الملفات يشير إلى أن تباشير المصالحة واعدة، لكن قد يكون في طريقها ممانعات ناتجة عن عناد في المواقف أو ضغوط لمراكز قوى. المطلوب بالنسبة إلى القوى الديمقراطية في هذه المرحلة أن تستثمر حاجة الدولة إلى المصالحة، وأن تعمل على تجنب الوقوع في أي تشنج يستثمر من طرف بعض مراكز القوى لإعاقة هذه الفرصة، وتشتغل بدلا عن ذلك، بإنتاج خطاب سياسي معتدل، يخاطب الدولة بأهمية المصالحة ومخاطر الانزياح عن المسار الديمقراطي والحقوقي، والحاجة إلى تمتين الجبهة الوطنية في مواجهة التحديات الخطيرة التي يعرفها السياق الدولي والإقليمي.