تتعمق أزمة حزب الأصالة والمعاصرة يوما بعد آخر، ما يبرر طرح السؤال أساسا حول خلفيات ما يجري. المؤشرات حول الأزمة عديدة؛ منها ما يعود إلى طبيعة النشأة، ف«البام» حزب هجين يجمع داخله ما لا يجتمع إلا في دار المخزن، وقد أظهر قادته أنهم غير قادرين على إدارة تنوع المسارات وتضارب الرهانات داخله؛ ومنها ما يعود إلى طريقة إدارته الصراع السياسي مع حزب العدالة والتنمية أساسا، وقد دفع ثمن ذلك عقب فشله في الفوز بالانتخابات التشريعية ل2016، بدءا بتحييد أمينه العام السابق إلياس العماري، وانتهاء بما يعيشه الحزب حاليا من صراعات فجّة بين قياداته حول هندسة المؤتمر المقبل. إذا نحن حاولنا رصد الأزمة منذ التوافق حول حكيم بنشماش لخلافة العماري، قبل عام تقريبا، يمكن القول مع المحلل السياسي، منعم لزعر، إنها مرّت بثلاث مراحل؛ مرحلة تدبير ما بعد العماري، كان هاجس الجميع فيها إثبات قدرة الحزب على الاستمرار دون أمينه العام السابق. لكنه سرعان ما دخل في مرحلة ثانية على إثر خلافات في التدبير السياسي للمنافع والمواقع داخل الحزب (البرلمان مثلا)، حيث أراد بنشماش إثبات قدرته على القيادة/القرار، واستهدف خصومه التشكيك في تلك القدرة بالذات، وهو صراع رمزي كانت أقوى مؤشراته صفعة الجماني على خد بنشماش، والتي تختزل كل ما يمكن قوله في هذا السياق. ثم جاءت مرحلة ثالثة انتقل فيها الصراع من الرمزيات إلى المؤسسة، وتفجر على خلفية تشكيل اللجنة التحضيرية المؤتمرَ الرابع المقبل. ما خلفيات هذه التطورات إذن؟ هناك تفسير رائج مفاده أن الأزمة ناتجة عن «طبيعة النشأة»، بمعنى أن الأزمة ليست عارضة في مسار هذا الحزب بل أصلية، يحملها في أحشائه، وظلت أعراضها تتنوع وتتعدد في كل المحطات التي مرّ منها، وأكبر مؤشر على ذلك أن معدل استقرار مؤسسة الأمين العام لا يتعدى سنتين (5 أمناء عامين خلال 10 سنوات). التفسير الثاني يذهب إلى أن الأزمة الحالية ل«البام» سببها الرئيس تخلي السلطة عنه، لأنه فشل في المهام الأصلية التي أوكلت إليه. فحوى هذا التفسير أن «البام» أنشئ ليس من أجل تحجيم حزب العدالة والتنمية فقط، بل ليكون ضابط إيقاع Régulateur للمشهد الحزبي، علما أن وزارة الداخلية هي التي ظلّت تلعب هذا الدور. ويستوحي أصحاب هذا التفسير نموذج الحزب الحاكم في كل من تونس ومصر قبل ثورات الربيع العربي. كلا التفسيرين يضيئان لنا جانبا من المشكلة، لكن الارتكان إليهما معا مسكون بجواب عن سؤال ضمني حول مصير هذا الحزب. إن القول إن الأزمة أصيلة بالنظر إلى طبيعة الحزب الهجينة، معناه أن مآله هو التفكك والتفتت، وهذا لم يقع، إلى حد الآن على الأقل، ولا أرى أنه سيقع في المستقبل القريب أو المتوسط كذلك. كما أن القول بتخلي السلطة عنه بسبب فشله في تنفيذ المهام التي أسندت إليه، وبسبب سياق ما بعد الربيع العربي، يستبطن مقولة النهاية أيضا، وهذا مستبعد كما سبقت الإشارة إلى ذلك. هناك تفسير ثالث مسكوت عنه، وأرى أن استحضاره قد يضيء جوانب كثيرة في مسار هذا الحزب منذ تأسيسه حتى اليوم، له صلة باستراتيجية السلطة في المصالحة مع الريف. لقد أُسس هذا الحزب بهدف رئيس، ضمن أهداف أخرى طبعا، ليكون قناة لإدماج النخب الريفية، وأساسا الحسيمة، ضمن مؤسسات الدولة، وبالتالي، استيعاب تلك النخب في إطار استراتيجي أكبر، هدفه تعزيز الوحدة الوطنية للمغاربة، بعد عقود من التهميش والعزلة التي عاناها سكان المنطقة في عهد الملك الراحل. لذلك، سنلاحظ أن عملية الاستيعاب والإدماج تنوعت، إداريا واقتصاديا وسياسيا، وقد كان المطلوب من قيادة «البام»، خصوصا نخبه الريفية، أن تساعد في توطيد عملية الإدماج والاستيعاب تلك، مقابل منافع ومواقع في السلطة طبعا، لكن يبدو أن إلياس العماري، على وجه الخصوص، تجاوز المطلوب منه، حيث انحرف نحو القيام بمهام أخرى، في الوقت الذي فشل فيه في أداء المهام الأصلية المكلف بها. وإذ يبدو أن استراتيجية السلطة في المصالحة مع الريف قد تعرضت للنسف، وأن حراك الريف أسهم في إسقاطها نهائيا، وفي ذلك خسارة كبيرة للريف وللمغرب ككل، يبدو أن السلطة، من جهتها، بصدد إعادة النظر في تلك الاستراتيجية، بما فيها رفع الغطاء عن النخب الريفية التي امتطت القيادة في حزب «البام»، إلى حين بلورة خطة جديدة، ولا يبدو أنها ستتسرع في ذلك مرة أخرى..