يبدو جليا أن استقالة الياس العمري الامين العام ل "حزب الاصالة والمعاصرة" ،مثلت ضربة رعد في سماء صيف 2017،سواء باعتبار الموقع البارز للحزب ضمن الخريطة السياسية المغربية، أو بسبب مسار رئيسه المثير للجدل. وإذا كان الرجل أرجع قراره خلال الندوة الصحفية ليوم 9 غشت التي أرجع فيها قراره لخيبة أمله العميقة من مردودية عديد من المنتخبين الجماعيين والبرلمانيين بصفته المسؤول الاول عن منحهم التزكية للترشح، فإن تعليله هذا لم يقنع المتتبعين الذين اعتبروها الجزء الظاهر من كرة الثلج العائمة. عودة الى المنطلق
يتذكر الجميع أن انتخابات 2007 مثلت ،في حينها زلزالا سياسيا في أوساط الدولة والطبقة السياسية عموما، حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة حينها 37بالمائة ،ومن ضمن هؤلاء صوت 19 بالمائة بالورقة البيضاء،ويعني هذا أن حوالي مليون مصوت عبروا عن عدم اقتناعهم وثقتهم بمجمل العملية الانتخابية أو بالأحزاب المتنافسة .
وتمثلت المفاجأة الكبرى آنذاك في تقهقر" حزب الاتحاد الاشتراكي" من المرتبة الاولى( خلال انتخابات 2002) إلى المركزالخامس و في فقدانه قلاعه الانتخابية بالمدن الكبرى ،وتعويضها بمراكز حضرية صغرى ،الأمر الذي له صلة أكيدة بالانشقاقات المتتالية في صفوفه وفقدانه تعاطف ودعم الطبقة الوسطى ،وهي الظاهرة الذي ستتأكد بشكل جلي خلال الاستحقاقات اللاحقة(2011و2016). مقابل ذلك سجل "حزب العدالة والتنمية" تقدما طفيفا وإن كان أقل مما كان متوقعا ،لكن ذلك لم يمنع الملاحظين آنذاك من تسجيل تماسك تنظيمه ،وبداية تمرسه في العملية الانتخابية ،وانتقاله من خطاب يهيمن عليه الطابع الدعوي الفضفاض، إلى خطاب سياسي يلامس ويقدم اقتراحات عملية تستجيب لحاجيات المواطنين بشرائحهم المختلفة مما يؤهله على المدى المتوسط من تبوأ مركز الصدارة في الساحة السياسية. ضمن هذا السياق والافق السياسي المضطرب ،تبلور داخل أوساط الدولة مشروع إعادة هيكلة الحقل السياسي المغربي من الأعلى مجسدا في الوافد الجديد :"حزب الاصالة والمعاصرة" بزعامة فؤاد عالي الهمة ،الذي بلورعرضا سياسيا يروم تأسيس قطب ليبيرالي حداثي يكون قادرا على استقطاب نخب سياسية جديدة لم تجد ضالتها ومكانتها في الاحزاب القائمة من جهة ،ومواجهة وايقاف زحف الإسلامويين وتغلغلهم التدريجي في مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع من جهة ثانية. بيد أن الحزب الجديد الذي كان يرغب في أن يحرث التربة السياسية بسرعة فائقة ، لم يكن يتوفر بحكم حداثة النشأة ،(رغم اندماج ثلاثة أحزاب إدارية هامشية)، على امتدادات داخل المجتمع عبر أذرع نقابية و شبابية وإعلامية ،مما جعله يراهن لتحقيق مشروعه على تدخل ودعم الادارة الترابية مركزيا وإقليميا نفوذ شبكة من الأعيان تكمن قوتهم الضاربة في أرصدتهم البنكية. نصف الكأس الممتلئ كرست موجة "الربيع العربي" وما تلاها من أحداث بارزة (حركة 20 فبراير، دستور يوليوز 2011)واقعا جديدا، فقد تصدر"حزب العدالة والتنمية" المشهد السياسي المغربي ضمن مناخ دولي ملائم كانت فيه الادارة الامريكية تتدخل وتضغط بشكل مباشرعبر قنواتها وأدواتها المختلفة ، أو عبر قطر وقناة" الجزيرة "، لتحريك وتأجيج غضب الشارع العربي تمهيدا لوصول الاسلاميين "المعتدلين" الى سدة السلطة . سمحت تلك العوامل ، بتولي "حزب العدالة والتنمية" لرئاسة الحكومة رفقة خلطة هجينة من الاحزاب المتنافرة، بينما وجد حزب" البام" نفسه مكرها على البقاء على الكراسي الغير مريحة للمعارضة . في ظل تلك المتغيرات كان يتعين على" حزب الاصالة والمعاصرة "بلورة استراتيجية جديدة تمكنه من إعادة ترتيب بيته الداخلي والاستعداد لانتخابات 2016،فأصبح الياس العماري بدهائه وعلاقاته المتشعبة وخطابه الشعبوي اليساري،الشخص الأوفر حظا لقيادة جيش الأعيان و مواجهة الآلة الدعائية القوية ل "حزب العدالة والتنمية" عموما، والخطاب الشعبوي الديني لزعيمه عبد الالاه بنكيران. بيد أنه خلافا لكل التوقعات وضدا على المنطق السياسي ،لم يجدد الناخب المغربي ثقته في إخوان بنكيران وحسب ،بل كافأهم بعدد إضافي من المقاعد البرلمانية رغم كل الاجراءات الاقتصادية التي أضروا بها قطاعات اجتماعية مختلفة ،ورغم مؤازرة الادارة الترابية لمرشحي "البام" أملا في فوزهم بالمرتبة الاولى التي تمنحهم دستوريا الحق في تشكيل الحكومة. بالمقابل لابد من تسجيل نجاح حزب" البام" من زيادة عدد مقاعده البرلمانية وتبوأ المركز الثاني ،مما حال دون ظفر إخوان بنكيران على الأغلبية المطلقة التي تؤهلهم لتشكيل حكومة على مقاسهم بما يعني ذلك من سيناريوهات سياسية تفتح ابواب المغرب على المجهول. انتكاسة زعيم شعبوي غداة نصف النجاح (أونصف الفشل) الذي حصده "حزب الأصالة والمعاصرة "خلال الانتخابات التشريعية لنوفمبر2016،جاءت استقالة مزوارفي 9 أكتوبر 2016 من قيادة "حزب التجمع الوطني للأحرار"، بدعوى مسؤوليته السياسية عن النتائج الغيرمرضية لحزبه ، ثم عملية إنزال بالمظلات لأخنوش فوق سطح البيت السياسي ل "التجمع الوطني للأحرار"،مؤشرا دالا على كونه أصبح حزب الدولة الأول المنوط به تقليم الأظافر السياسية لإخوان بنكيران ،وبأنه آن الأوان لحزب " البام" أن يجلس على مقعد البدلاء الكئيب ،والقيام بدور المعارضة للحكومة ،علما أن جميع قيادات الاحزاب التاريخية بالمغرب أصبحت مقتنعة بلا جدوى ولا معنى الحياة السياسية خارج المكاتب الفارهة والكراسي الوثيرة للوزارات. لكن الضربة التي ستقصم ظهر الياس العماري جاءت من أبناء المنطقة التي ينتمي اليها، وحيث يستمد قسطا غير يسير من مشروعيته السياسية منها،وكان الانتماء الجغرافي إليها مقياسا رئيسا في نيل المواقع المتقدمة داخل الحزب .فقد كشفت الاحتجاجات الشعبية الواسعة لمدينة الحسيمة وضواحيها ،من ضمن حقائق عديدة ، أن النخب الريفية (أو غالبيتها الساحقة على الاقل)التي ترشحت وفازت تحت يافطة الحزب لم تكن في مستوى انتظارات الساكنة،وأصبحت متجاوزة ولا تأثير لها بعد اندلاع الشرارة الاولى للاحتجاجات. كما تبين للدولة ،لما دقت ساعة الحقيقة ،أن الياس العماري باعها(بحسن نية أم لا) وهما إسمه تمثيلية الريف. من هنا وعبر تداخل وتشابك مجموعة من العوامل المشار اليها أعلاه أصبح الياس العماري متجاوزا باعتبارأن لكل مرحلة رجالاتها.فالمغرب مقبل على مرحلة جديدة يتطلع فيها نحو مرحلة جديدة يقودها نخبة من الكفاءات السياسية والتقنقراطية بعيدا عن صخب العنف اللفظي المصاحب للخطاب الشعبوي لبنكيران والعماري وشباط.ولم لا يشكل تواري الياس العماري عن واجهة حزب الجرار فرصة ذهبية لتطبيع علاقته المتوترة مع "العدالة والتنمية"، ودخوله لاحقا للحكومة بعد إنزال الستار على مرحلة الخصمين اللذوذين بنكيران والعماري، بعدما تبين بجلاء أن تكتيكات المواجهة والسجال السياسي مع "البجيدي" خلال السنوات الماضية لم تكن عقيمة وحسب ، ،بل انها صبت الماء في طاحونة إخوان بنكيران.