لماذا اختار العروي، بعد مسار عمري طويل، أن تكون وصيته الفكرية التي يتوج بها إنتاجه الفكري والمعرفي الغزير، عبارة عن تأملات في الكتاب العزيز؟ ما دلالة ذلك عند مفكر كبير ظل وفيا لشعاره الخالد «التاريخانية»، باعتبارها مفتاح تحررنا من التأخر التاريخي، والتحاقنا بركب التقدم الحضاري والرقي الإنساني، الذي ليس شيئا، سوى تحقيق الغرب في ديارنا؟ وماهي المسوغات التاريخية والقيمية التي تجعل العروي يعتبر الإسلام الأول هو مهد هذا الغرب والحضارة الغربية المعاصرة؟ ولماذا اختار العروي أسلوب الرسالة لبث بنود وصيته هذه، التي وسمها ب»عقيدة لزمن الشؤم»؟ ولماذا اختار النطق على لسان امرأة؟ هل لأن المرأة ، بحكم ما تكابده من أشكال المنع والميز، في عالمنا، أقرب إلى الحقيقة كما يعتقد؟ هذه وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي سنحاول إثارتها ونحن نتأمل في «عقيدة» العروي التي استخلصها من معايشته للقرآن الكريم. إنّ الحديث عن “دين الفطرة” عند روسو ليس حديثاً بريئاً في اعتقاد طه، وإنما تكمن وراءه نية “مغرضة”، الغرض منه “فصل الدين عن ذاته” والدعوة إلى “أخت العلمانية”، وهي “الدهرانية”، حيث يعتبر طه أنّ الدهرانية والعلمانية (بفتح العين) والعلمانية (بكسر العين)، “كلها بنات للدنيانية”. هكذا سيخضع طه عبدالرحمن تصور روسو للتربية الدينية، المبثوث في نص “عقيدة القسيس سافوا”، والذي سبق للعروي نقله إلى اللغة العربية، كما تطرقنا إلى ذلك سابقا، لمنهج نقدي سمّاه بمنهج “النقد الائتماني” المرتبط بفلسفته التي يسميها ب”الفلسفة الائتمانية”. تقوم فلسفة طه هذه على مبادئ أولية ثلاثة، وهي: أولاً، مبدأ الشهادة، ويقابله في الفلسفة الكلاسيكية “مبدأ الهوية”. وثانياً، مبدأ الأمانة الذي يتخذه بديلاً لمبدأ “عدم التناقض”. وثالثاً، مبدأ التزكية، الذي يروم طه من خلاله تجاوز مبدأ “الثالث المرفوع” الذي تواتر عن التقليدي الفلسفي منذ أرسطو طاليس. هذه المبادئ الثلاثة، تؤسس لفلسفة طه الائتمانية التي تتضمن بدورها، حسب قوله، “فلسفات ثلاث هي: “فلسفة الشهادة” و”فلسفة الأمانة” وفلسفة التزكية”. مما يجعلها جديرة بأن “توصف بأنها فلسفة إسلامية حقيقية أو حتى فلسفة إسلامية خالصة “. ينطلق الدكتور طه من قناعة راسخة هي أنّ فلسفته التي يسميها بالتسميات المتعددة السابقة، هي الفلسفة الإسلامية الخالصة، وما عداها من إنتاجات فكرية لا علاقة لها بالإسلام عقيدة وديناً، سواء تعلق الأمر بالإنتاجات الفلسفية لمفكري الإسلام في العصور الوسطى، أو بما ينتجه المتفلسفة من المسلمين المعاصرين، بل إنّ طه يذهب إلى انطلاقاً من هذه الخلفية النظرية، يرفض طه اعتبار ما كتبه روسو في رسالته المعروفة ب”عقيدة قسيس سافوا” ب”دين الفطرة”؛ ففي هذه التسمية تمويه وتدليس على القارئ، لأن ما يدعو إليه روسو هو “الدين الطبيعي” الذي يعتبر خير من يمثل الصيغة الطبيعية ل”الفصل الدهراني” بين الدين ونفسه. إنّ روسو يجعل من “الدين الطبيعي” مضاداً ل”الدين المنزّل”، لذلك من الخطأ الاعتقاد أنه “يطابق الصورة الفطرية للدين المنزّل”، فنجعل منه، والقول لطه، “دين الفطرة”. وذلك من عدة وجوه نذكر منها وجهين اثنين: أ-إنّ دين الفطرة يرتبط بالوحي في حين أنّ الدين الطبيعي عند روسو “لا يأخذ بالوحي”، بل يشك فيه، وهو ينبني على إنكار الوحي والملائكة والنبوة. ب-يرتبط مفهوم الفطرة في نظر طه بمبدأ الخلق، في حين نجد الدين الطبيعي عند روسو يشك في مبدأ الخلق هذا. يثمّن طه ربط روسو بين الدين الطبيعي وأخلاق الباطن، أو الأخلاق الجوانية، ممّا يجعله أقرب إلى الصورة الفطرية للدين المنزّل، لكن، مع ذلك، يعتبر طه أنّ إيمان روسو إيمان منقوص، لأنه “لا يؤمن بملك مكرم، ولا نبي مرسل، ولا كتاب منزّل”، وبالتالي، لا يمكن أن ننعته ب”دين الفطرة” أو نعتبره أقرب إلى عقيدة الديانة الإسلامية. حاصل القول إذن، هو أنه سواء أكان الغرض من تخصيص طه لقول في “عقيدة كاهن سافوا” تفنيداً لاحتفاء عبدالله العروي بهذا النص، أم كان الأمر مجرد “صدفة فكرية”، فإن الثابت هو أنّ طه يحمل تصوراً مناقضاً لذلك الذي نوّه به العروي في كتابه “دين الفطرة”، الأمر الذي يضفي مزيداً من الحيوية والنشاط على التلقي المغربي للفكر الأنواري، حيث سنغلق هذا القوس لنواصل رحلة الإنصات إلى عقيدة العروي حول “دين الفطرة” أو عقيدة لزمن الشؤم.