«هنا الغابة، لا قانون يسود هذا المكان غير قانون الجوندارم، الله يرحم إيماك بعد»، بهذه العبارة صرخت مليكة (وهي سيدة في عقدها الرابع) في وجوهنا، مطالبة إيانا بالابتعاد قبل أن تشيح بوجهها وتأخذ مكانا إلى جانب زميلاتها في الطابور عندَ بوابة المعبر، بانتظار بدء إجراءات الدخول إلى سبتة المُحتلّة. الساعة تشير إلى الرابعة والنصف عشية يوم الأحد. الشمس مازالت لافحة، لكن النساء ممتهنات التهريب المعيشي بدأن في التوافد الواحدة تلو الأخرى، فبعد القيود الأخيرة التي فرضتها الحكومة لضبط تسلّل المواطنين المغاربة إلى الثّغر، صار ممتهنو التهريب المعيشي يبيتون في العراء ليلة كاملة لكي يتسابقوا إلى العُبور صبيحة اليوم الموالي، أي الاثنين، خاصة أنه جرى تحديد أربعة أيام في الأسبوع للعبور، فيما لا يسمح لهم بالعمل في أيام الجمعة والسبت والأحد. وردة (هو اسم مستعار لسيدة تبلغ الخامسة والخمسين من عمرها) اعتذرت عن تصرف زميلتها وصراخها في وجوهنا، مبررة ذلك بالصراع النفسي الرهيب الذي تمر منه ممتهنة التهريب المعيشي في الآونة الأخيرة، فوقت ممارسة نشاط التهريب محدود جدا. «سمحي ليها أبنتي، ولكن إيلا هضرنا معك مايخليوناش ندخلو، وحنا هنا كانجريو على طرف الخبز»، تقول وردة وهي تنظر إلى الأرض بأسى كبير كمن ارتكب جرما، ملمحة إلى عيون شرطة الجمارك التي تتربص بهن من بعيد، قبل أن تضيف بصوت خافت: «نحن فقط نكري ظهورنا لنقل السلع، أرجوك، ابتعدي، فإذا فطن الأمن والجمارك إلى أنني حادثتك أو أدليت بأي تصريح، سيرفضان السماح لي بالدخول، وقد تمزق السلطات الإسبانية جوازي أو توسخه، ولن أتمكن من ولوج سبتة أو إعالة أسرتي بعد الآن. ابتعدي». نزيف خزينة الدولة المغربية لصالح مافيات التهريب من جانبه، قدر المدير العام لإدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، نبيل لخضر، قيمة البضائع المهربة سنويا من معبر باب سبتة ما بين 6000 و8000 مليون درهم، على هامش مناقشة خلاصات التقرير الأولي الذي أنجزته اللجنة الاستطلاعية البرلمانية للمعبر الحدودي باب سبتة في شهر فبراير الماضي، ما يكبد الاقتصاد المغربي خسائر تعادل 300 مليون أورو سنويا على شكل ضرائب تذهب إلى أباطرة الاقتصاد غير المهيكل، فيما تنتعش خزينة الدولة الإسبانية بأزيد من 2700 مليار سنتيم، في تصريح «خطير» يكشف بشكل جلي الاختلالات التي يتسبب فيها التهريب. وبالرغم من امتناع المشرفين على هذا التقرير عن إمداد «أخبار اليوم»، بتفاصيله بدعوى «السرية والتزامات مع الوزراء المعنيين»، فإن مصدرا من اللجنة أكد لنا أن التقرير تضمن «أرقاما مهولة كشفت تزايد وتيرة التهريب المعيشي في السنوات الأخيرة، بالرغم من المجهودات التي تبذلها الدولة لمحاربته، خاصة أن أزيد من 50 ألف مغربي يعيشون من هذا القطاع غير المهيكل، بمن فيهم 3500 امرأة و200 طفل قاصر و4000 من الرجال، إلى جانب العشرات من الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، الذين يتعرضون لسوء المعاملة من لدن رجال الأمن والجمارك بالمعبر الحدودي». من جهته، أكد عز الدين أقصبي، الخبير الاقتصادي، في تصريحه ل«أخبار اليوم»، أن «التهريب المعيشي أو النشاط الأسود يصعِّب مهمة تطوير عدد من القطاعات في المغرب، وله انعكاسات كثيرة على الاقتصاد، وأيضا في ما يخص ضبط الضرائب وتصعيب شروط المنافسة»، مشيرا إلى أن الاقتصاد المغربي سيبقى متضررا مادامت خيوط التهريب بين يدي «عصابة خارج القانون تعمل في الظل، وتستفيد من التحويلات، بتواطؤ مع سلطة المعابر، التي تنتصر لمصالحها المشتركة على حساب مآسي الفئات المهمة». واعتبر المتحدث التهريب المعيشي قطاعا مهيكلا في الظلام، لأن السلع تدخل بكمية كبيرة وبانتظام، وتتوفر في جميع المدن المغربية سواء القريبة من المعبر، أو الداخلية، وتزحف إلى مدن جنوب المغرب، حيث «لا يمكن أن يقع هذا التهريب دون إشراف تنظيمي يسهم فيه جميع الأطراف، بمن فيهم الإدارة. إنه اقتصاد لا يتطور، لأن هناك فسادا ورشاوى تعطى. المافيات موجودة، ولا أظن أنها غير معروفة لدى السلطات، لكن يوجد تواطؤ ومصالح مشتركة»، على حد تعبيره. دريهمات مقابل مآس إنسانية.. لقمة العيش بطعم المهانة ووصف المصدر، الذي تحدث إلى «أخبار اليوم» من لجنة الخارجية بالبرلمان، الوضع في المعبر ب«المأساوي»، خاصة أن معاناة ممتهني التهريب، الذي يطلق عليه العامة هنا «التراباندو»، لا تقتصر فقط على سوء المعاملة، بل إن المئات من النساء ينمن في العراء والرطوبة على بعد أمتار قليلة من البحر، ويستعملن الحفاظات، خوفا من ضياع فرصة الدخول إلى سبتةالمحتلة، وهو ما أكدته العديد من النساء ممتهنات التهريب، واللواتي يعتبرن أنفسهن «الحلقة الأضعف في شبكة التهريب الملغومة»، حيث إن دورهن يقتصر فقط على نقل البضائع التي تزن ما بين 70 و80 كلغ، والتي يقتنيها المهرب الكبير من سبتة إلى الأراضي المغربية، مقابل أجر عن كل عملية يتراوح بين 150 و200 درهم، في ظل الارتفاع المهول لعدد الضحايا في صفوف النساء، كانت آخرهن سيدة شابة ماتت شهر أبريل من السنة الماضية، والتي كانت النقطة التي أفاضت الكأس، وحركت دهاليز المسؤولين الترابيين لاتخاذ إجراءات جديدة لتنظيم عملية دخول وخروج النساء الحمالات، في أفق خطة للقضاء على التهريب نهائيا سنة 2029 من أجل النهوض بالاقتصاد المغربي. من جانبه، اعتبر زكريا الزروقي، الفاعل الحقوقي بالمدينة، في تصريح ل«أخبار اليوم»، باب سبتة «القنبلة الموقوتة القابلة للانفجار في أي وقت»، مشيرا إلى أن «زمن العبودية مازال قائما بهذه المنطقة المتوترة، ورغم تعالي الأصوات المطالبة بإيجاد حلول بديلة، والمطالبة بأنسنة عملية التهريب، فإن مافيا التهريب تظل دائما المتحكمة والمسيطرة على لقمة العيش». وأوضح المتحدث أن الحل يكمن في «المقاربة اجتماعية واقتصادية تتجلى أساسا في التسريع بإخراج المنطقة التجارية الحرة، وتوجيه الاستثمارات إلى عمالة المضيق-الفنيدق، وفسح المجال للشباب حاملي الدبلومات للاشتغال في الميناء المتوسطي بطنجة»، مشيرا إلى أنه من الجانب القانوني، فإن ممتهني التهريب المعيشي «لا يزاولون أي نشاط عملي؛ ليس لديهم عقد عمل، لا في الجانب المغربي ولا في الجانب الإسباني بسبتة؛ ولا يساهمون في أي صندوق ذي طابع اجتماعي، ولن يستفيدوا من أي مساعدة في حال تعرضهم لحادث أثناء التهريب». التهريب ليس فقط على الأكتاف.. بل له أوجه أخرى يكفي أن يقف الناظر أمام معبر سبتة، ليلحظ أن التهريب المعيشي لا يقتصر فقط على النساء أو الرجال الحمالين، بل تجاوز ذلك إلى المهربين على متن «السيارات المقاتلة» أو «سيارات الدفع الرباعي»، منهم محمد الرجل الخمسيني الذي يعيل أسرته منذ أزيد من 11 سنة من التهريب المعيشي، أو ما يعتبره هو «مهمة وليس عملا قارا». محمد، الذي التقيناه في قلب مدينة الفنيدق، وأبى إلا أن نلتقي في منزله باعتباره المكان الأكثر أمانا، قال ل«أخبار اليوم»: «أنا لا أحبذ اسم التهريب المعيشي، فهو لم يعد كذلك منذ زمن، بل صار تهريبا منظما، ونحن أوكلنا أمرنا لمافيا التهريب، لنا الفتات الذي نعيل به أسرنا، ولهم ملايين الدولارات، لكن، أين البديل؟ لا شيء»، يقول محمد بنبرة غاضبة، مضيفا: «صحيح أن حالنا أفضل من النساء وممتهني التهريب الراجلين، أو حتى الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يعملون في هذا المجال، راه حتى حنا مكرفسين، فنحن نحمل ما قيمته تقريبا 2000 درهم من الملابس والإلكترونيات، و5000 درهم من المواد الغذائية، والتي يربح منها التجار الكبار والسماسرة أزيد من 13000 درهم، فيما نتقاضى نحن فقط 500 درهم لليوم، هل هذا، في نظرك، سيعيل أسرتي المكونة من ثلاثة أطفال؟». وحول كيفية تهريب هذه الكمية من السلع على مرأى من الجمارك، يقول الرجل، وهو يسكب كأس الشاي وقد علت وجهه ابتسامة ساخرة: «لا شيء مستحيل في هذا المعبر. نحن مجرد سائقي سيارات هي في الحقيقة في ملكية التجار أو السماسرة الذين هم بدورهم في خدمة المافيات الكبرى للتهريب، نمر أمام الجمارك بأريحية، لأن الاتفاق أبرم بالأساس من الأعلى، أي بين التجار والعاملين في الجمارك الحدودية، والمقابل هو هامش ربح محدود». وأضاف محمد وهو يمسح لحيته بهدوء: «لوحة السيارة تكون معروفة لدى الجمارك، هذا من جهتنا، أما من جهة الحمالين، فعادة ترشم السلع المهربة بأرقام أو حروف، وكل رقم يحيل على تاجر محدد، أي أن هذه السلع تمرر بالمرموز أمام أنظار الجمارك المغربية والإسبانية؛ الأولى تستفيد من عمولات مادية، والثانية اقتصادها يستفيد». بعد برهة من الزمن، التحق بنا سعيد، الذي كان يعمل مهربا على متن دراجة نارية لأزيد من ست سنوات، قبل أن يوضع في اللائحة السوداء للأمن الحدودي، بسبب إدلائه بتصريح لأحد المواقع الإلكترونية عقب وفاة سيدة بسبب التدافع في المعبر قبل سنة، ندد من خلاله بالوضع في المعبر، وطالب من خلاله الدولة المغربية بالتدخل الفوري لوضع حد لهذه «المهزلة». وقال الشاب الثلاثيني إن حياته انهارت بسبب مجرد تصريح عبر من خلاله عن حنقه وغضبه مما يحدث، لكنه دفع الثمن غاليا، حيث إن «الأمن على الحدود يعتمد السلطة التقديرية والانتقامية في السماح لأي شخص بولوج الثغر المحتل»، يقول سعيد، مضيفا: «بعد تنديدي بالممارسات اللاإنسانية على المعبر، حرمت مباشرة من دخول سبتة، وأخذ الأمن المغربي جوازي وأعطاه للأمن الإسباني الذي وضع عليه علامة سوداء»، يسحب سعيد جوازه من جيبه ليرينا إياه بانفعال كبير وهو يقول: «انظري.. انظري، عن أي حقوق للمواطن نتحدث؟ وأي سيادة لوطن يتعرض فيه الجواز للتمزيق أو يوسخ في حدوده من لدن المحتل؟ كنت أعيل أسرتي بذلك الفتات الذي أكسبه من التهريب بالدراجة النارية مقابل 250 درهما في اليوم، وتكون عادة عبارة عن الملابس الجديدة التي يأخذها مني سماسرة التجار، وأحيانا أخرى لا نعرف محتوى السلع. نحن فقط ناقلون.. اليوم أنا بطالي، لا أجد عملا، ويوجد مئات الشباب يعانون ما أعانيه. هذا الذي تسمونه أنتم تهريبا هو مصدر عيش سكان مدن شمال المغرب». المعطيات المثيرة التي أدلى بها محمد وسعيد، أكدها مصدر ل«أخبار اليوم» في الجمارك الحدودية، والذي أوضح أن العلامات والرشوم المدونة في واجهة السلع هي بمثابة «كلمة سر» تحيل على تاجر أو سمسار معين، وأحيانا أخرى تتعدد الأرقام، ويكون التاجر واحدا، كما أنه في أغلب الأوقات لا يعلم المهرب محتوى الأكياس التي يحملها، ما يفسح المجال لتهريب مواد ممنوعة أيضا. وقدر المصدر ذاته قيمة المحجوزات في السيارات ب300 ألف درهم في اليوم، ولدى الراجلين بما بين 150 و200 ألف درهم في اليوم، كما أسر لنا أيضا بأن التهريب لا يقتصر فقط على المغاربة، بل هناك أيضا مواطنون من مدينة سبتة الإسبان، ممن يهربون الهواتف المحمولة والإلكترونيات إلى المغرب مستغلين امتيازاتهم في الجمارك الإسبانية. من جهته، قال محمد بنعيسى، رئيس مرصد الشمال لحقوق الإنسان، في تصريح ل«أخبار اليوم»، «إن ما يخسره المغرب اقتصاديا من معبر باب سبتة، بشكل مباشر، يتجاوز 450 مليون دولار سنويا، إضافة إلى ما تتطلبه مراقبة مرور الأشخاص والبضائع يوميا من إمكانات بشرية وتقنية ومادية، بالإضافة إلى استفحال ظواهر سلبية اجتماعيا مثل الهجرة الداخلية والجريمة والتطرف والتفكك الأسري… وأنشطة غير مشروعة، وهي ظواهر تعيق التنمية بالمنطقة، وتجعلها دون جدوى، وهي كلها خسائر غير مباشرة»، لذلك يعتقد أنه «لو جرى استثمار 10% من قيمة الخسائر في تنمية المنطقة بشكل سنوي، فإننا سنكون على المدى القريب أمام تنمية حقيقة». الجمارك: نحن نحارب التهريب المعيشي والفساد في المعبر من جهته، نفى مدير الوقاية والمنازعات، ناصر نزار، صحة مضمون المعطيات والتصريحات التي أدلى بها مصادرنا وممتهنو التهريب المعيشي، بشكل قطعي، خاصة في الشق المتعلق بتواطؤ جمارك الحدود مع السماسرة والمهربين، معتبرا «إدارة الجمارك تقوم بمجهودات جبارة بهدف القضاء على التهريب المعيشي بصفة نهائية، بدليل قيمة المحجوزات السنوية». وأضاف نزار، في تصريحه للجريدة، أن إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة بالمغرب رفعت حصيلة مراقبة التهريب في السنوات الأخيرة؛ إذ حجزت الجمارك ما قيمته 87 مليون درهم من البضائع المهربة خلال سنة 2018، بارتفاع ملحوظ مقارنة بسنة 2017 التي سجل خلالها حجز ما قيمته 80 مليون درهم، أي بمعدل يناهز 200 إلى 250 ألف درهم في اليوم من قيمة السلع المهربة يوميا. وأدلى المسؤول ل«أخبار اليوم» بأرقام تنشر أول مرة بخصوص قيمة المحجوزات التي بلغت خلال شهر يناير الماضي 4.3 ملايين درهم، لترتفع أيضا في فبراير بمعدل 5.9 ملايين درهم من قيمة السلع المهربة، والتي تنوعت بين المواد الغذائية، الإلكترونية والملابس، وغيرها، حسب ما صرح به المسؤول الجمركي. ورفض المسؤول في إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية، فكرة وجود «مافيا» أو تنظيم وراء ممتهني التهريب المعيشي، قائلا: «هؤلاء أناس بسطاء، لم يصلوا إلى مستوى المافيا أو التنظيم، بدليل أننا عندما نشك في أحدهم ونمسكه بالجرم، يكون قد ترك أثرا وراءه، فهل المافيا تترك دليلا ماديا ملموسا وراءها؟». وتابع المتحدث: «بالنسبة إلى تواطؤ الجمارك من خلال الرشم، هذا غير ممكن لأن كل نقطة من المعبر مزودة بكاميرا مراقبة تبث في الإدارة بالعاصمة، لا يمكن أن يكون الجمركي بهذا الغباء، ويقوم بأي شيء مخالف للقانون»، مضيفا: «ما يحدث أنه أحيانا تردنا تبليغات بالرشوة، ونحن نجري بحثا مفصلا ودقيقا عن الجمركي، وإذا ثبت ذلك في حقه، نعاقبه فورا، وهذه حالات لا يجوز تعميمها». وكانت إدارة الجمارك قد خصّصت 25 مليون درهم (2.5 مليون دولار) لإعادة تهيئة البنية التحتية للمعبر، ووضع كاميرات المراقبة والإنارة وزيادة عدد الممرات، فيما عاقب نبيل لخضر، المدير العام للجمارك والضرائب غير المباشرة، 24 جمركيا سنة 2018 و14 سنة 2017 و6 سنة 2016، ثبت تورطهم في التهريب. 6