هل يجب أن نتقدم؟ وكيف نتقدم؟ وما شكل التقدم المرغوب أم يجب أم نبقى على حالنا من التأخر؟ حين تلتبِس الأجوبة تعم الحيرة. المخزن يرى أن علينا أن نتقدم في البنيات التحتية والاقتصاد ونخلق فرص الشغل ونشجع ريادة الأعمال ونهتم بالشباب والأطفال والمهمشين ونحفز الابتكار، وكل ذلك دون ديمقراطية فعلية ولا صحافة استقصائية ولا افتتاحيات قوية ولا تشجيع خريطة سياسية واضحة المعالم. النظام لا يرى مشكلا في الشق الثاني من المعادلة في حد ذاته، وإنما لا يثق في من يدافعون عنه. الديمقراطية تأتي بالتغيير ولا أحد يعرف أين يقف التغيير. لذا يريد ديمقراطية على المقاس، وطبقة سياسية على المقاس، وخبراء وطبقة أكاديمية وإعلام وكل شيء على المقاس. مقاس مخاوفه وهواجسه وحساباته. فوبيا نفسية تجعل مقاس التغيير ضيقا وتضيق بطموحات وأحلام جيل بأكمله. الأحزاب لم تعد في معظمها قوة منفصلة عن النظام تسعى إلى التأثير في سياساته وقراراته وتقول نعم، وتقول لا. تلك أيام خالية. الأحزاب صارت قناطر إلى الوظائف السامية والمرموقة. وزير، كاتب دولة، سفير ورئيس مؤسسة عمومية. الحزب قنطرة مختصرة للعبور إلى هذه المناصب. العدالة والتنمية الحزب الذي رفع شعارات كبرى وواعدة قلصها بشكل ذاتي لتناسب مقاس الواقع. يمكن لهذا الحزب أن يقنعك أن سقف الممكن سياسيا هو هذه الحكومة المتنافرة، وأنه يصنع معجزة سياسية منذ 2016. الحزب السياسي الأكثر تنظيما وقوة منشغل بصراعات سياسية صغيرة اليوم، ويدبر كتابات ووزارات بمهام متداخلة. لم يفقد طاقته، لكنه يقتصد في استخدامها. تكتيك ذكي يعطي للحزب مسارات للمناورة وخلق المفاجأة الانتخابية في أي لحظة، لكنه يضر بقضية الإصلاح السياسي عموما. وحتى لو فاز بانتخابات جديدة في غياب إصلاح سياسي عميق، لن يكون أكثر من قطعة ديكور صغيرة تؤثث واجهة متجر سياسي عملاق وشامخ.. ومفلس أيضا. النقابات صدئت وتآكلت. كشفت التنسيقيات التي تجوب الشوارع والساحات وتخترق كل القطاعات عورة هذه الهياكل الشمولية. هل الزيادة المرتقبة في الأجور نتيجة ضغط نقابات شعبية قوية على الدولة، أم ظرفية سياسية إقليمية تتشابه مع أحداث 2011 تفرض تهدئة الشارع قليلا؟ ألم تتقرر زيادة مماثلة يومها في الأجور؟ جل قوى التغيير التقليدية في البلاد عتيقة ومنهكة وينخرها الفساد والزبونية. هي في الحقيقة قوى انتهت تماما واستنفذت نفسها ومهامها. كل مسيرة تقودها تنسيقية في قطاع ما، كل حركة احتجاجية غير مؤطرة، كل صوت أعزل مهمش يطالب بالحرية والديمقراطية يكتب شهادة وفاة لها. الدولة لم تختر بعد التشطيب على الهياكل المترهلة والتعامل مباشرة مع التنسيقيات والتعبيرات الجديدة، وهذا طبيعي لأنها خطوة كبيرة لا تناسب تصورها للتطور السياسي. لكن الأخطر من كل هذا، هو حين يتسرب هذا الرهاب السلطوي من التغيير إلى الشعب أيضا. الشعب نفسه يؤمن أن المقاس الذي يلائمه هو ذاك الذي تحدده البيروقراطية. سأعطي مثالين بعيدين عن السياسة من باب وقريبين منها من باب آخر. مثالان يجعلانك تعي كم يفهم المخزن الشعب أحسن منك. مرة جلست بقربي مهاجرة مغربية عجوز في مقعد بمقصورة القطار لا يطابق الرقم في تذكرتها، طلبت مني قراءة التذكرة لها. نبهتها إلى الأمر. قالت في صلف «هل المغاربة يريدون الآن أن يُضاهوا فرنسا؟!» (تقيم هي بفرنسا)، وافقتها شابة مغربية الرأي في ذلك. وأسهبتا في تأكيد أطروحة «لن نصل أبدا إلى فرنسا». ألم يكن الحجز وترقيم المقاعد مطلبا شعبيا؟ قلت في نفسي. ومرة ذهبت في رحلة استكشافية بين مدن وأماكن متجاورة في جهة من البلاد وكانت الأخبار التي تنقلها الصحافة في مدة تجوالي تحكي عن أزمات حقوقية واقتصادية وتعليمية محبطة تماما، ومناقضة تماما وبعيدة تماما عن مشاغل ويوميات وقصص الناس الذين قابلتهم فيها.