في الجزائر، كما في السودان، ينقلب موقف الجيش من النقيض إلى النقيض؛ فمن حماية الفساد والاستبداد، والتحذير من احتجاجات المطالبين بالديمقراطية، والتشكيك في ارتباطاتهم وأهدافهم ونواياهم، إلى اعتبار مطالبهم، فجأة، مطالب مشروعة وعادلة. يتدخل الجيش ليس، فقط، لوضع حد لحالة الاستبداد وضمان انتقال السلطة، بل، أيضا، بالزحف على اختصاصات القضاء، للحديث عن مطاردة واعتقال الفساد والمفسدين. ما الذي يعنيه إصدار الجيش الجزائري، في اللحظة الأخيرة، بيانا يتوعد فيه «العصابة»، أي المقربين من بوتفليقة، بالملاحقة لاسترجاع أموال الشعب المنهوبة؟ يعني أن الجيش موقن، سلفا، حتى قبل أن يؤكد القضاء ذلك أو ينفيه، أن من كانوا يحيطون بالرئيس السابق لم يكونوا سوى عصابة لصوص. وفي السودان، يباشر الجيش الاعتقالات في صفوف الموالين للرئيس، منذ البداية، وقبل حتى إصدار البيان الأول الذي أعلن فيه تنحية الرئيس وحالة الطوارئ. ومع ذلك يعلن المحتجون استمرار اعتصامهم بمقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم، مثلما تستمر الاحتجاجات في الجزائر رغم استقالة الرئيس، ورغم إعلان الرئيس المؤقت موعدا محددا لإجراء الانتخابات الرئاسية. لماذا؟ فضلا عن التجارب العسكراتية الأولى، التي رفعت شعارات التحرر والاشتراكية والتقدمية، في مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن وليبيا، لتنقلب إلى أكثر التجارب بيروقراطية واستبدادا وفسادا في العالم، وفضلا، أيضا، عن تجربة مصر الأخيرة مع السيسي، الذي تمسكن حتى تمكن، فانقلب على ولي نعمته الرئيس محمد مرسي، ليصبح، الآن، من أكبر دكتاتوريي العالم، فإن الشعبين الجزائري والسوداني يتساءلان بارتياب: هل نصدق أن مؤسسة طالما حمت الرؤساء المستبدين ومحيطهم الفاسد من العقاب، تنقلب عليهم وتحمي الشعب وتنتصر لمطالبه العادلة؟ وحتى إذا افترضنا أن الجيش ملَّ وتعب من رؤساء شاخوا وخرفوا، بعدما حولوا كراسي الرئاسة إلى عروش، فهل يمكن أن نصدق أن هذا الجيش كان يحمي استبدادهم وفساد محيطهم دون أن يذوق منه ويتورط فيه؟ إذا كان الجواب نعم، وهذا مؤكد بالتقارير الدولية، فإن العصابة لا يمكن أن تطارد العصابة. ثمة معادلة مقلوبة في الوضع العربي، لا يمكن أن تستقيم أي تجربة ديمقراطية وتدوم دون قلبها. في الديمقراطيات الكاملة، فإن الدول هي التي تصنع جيوشها، وفي التجارب العربية، فإن الجيوش هي التي تصنع الدول؛ وبالتالي، فإن أي انتقال مستديم نحو الديمقراطية يقتضي أن تصبح السلطة بيد الشعب، عدا ذلك، سيبقى أي حديث عن ثورة أو حراك شعبي لتصحيح الوضع في البلاد العربية، مجرد لحظة غضب شعبية، سرعان ما يجري الالتفاف عليها، بالتخويف من تدخل جهات أجنبية، أو بالترهيب من شبح الإرهاب، وبالتالي، تُخيَّر الشعوب بين الاستبداد والفساد، وبين حالة اللااستقرار. فهل يمكن أن نصدق أن الجيشين الجزائري والسوداني قررا، أخيرا، أن يسلما السلطة للشعب؟ لقد أصدرت ترنسبارنسي الدولية، بعد سنتين من انطلاق النسخة الأولى من الربيع العربي، تقريرا أكدت فيه أن المؤسسة العسكرية، في كثير من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، تعتبر من أكثر المؤسسات التي ينخرها الفساد، وأن «أجهزة الدفاع والأمن كان لها دور ملموس في الاضطرابات الإقليمية، ويجب أن تستغل زخم التغيير لتجري إصلاحات من الداخل.. وأنه نظرا إلى أن الجيش هو عنصر مهيمن في عدد كبير من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وله نصيب ملموس في القيادة السياسية، تصبح قضية الفساد في قطاع الدفاع أكثر إلحاحا». وإلى جانب الفساد الذي يمكن أن يكون قادة الجيش والأمن السوداني، حسب تقرير ترنسبارنسي، متورطين فيه، فإن العديدين منهم، مثل رئيس المخابرات، صلاح قوش، متهمون بالتورط في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في دارفور. وإذا أضفنا إلى تقرير ترنسبارنسي تقريرا آخر نشره موقع «ميدل إيست آي» البريطاني، في فبراير المنصرم، عن أن الإمارات والسعودية ومصر خططت لإيصال شخصية عسكرية إلى رئاسة السودان، بعد إسقاط الرئيس عمر البشير، وأن رئيس المخابرات السودانية، صلاح قوش، أجرى لهذا الغرض محادثات سرية مع رئيس الموساد الإسرائيلي، يوسي كوهين، في ألمانيا، خلال فبراير، فإن صورة ما يمكن أن يحدث مستقبلا في السودان ستكون واضحة. وحتى إذا لم يصح ما تحدث عنه «ميدل إيست آي»، فمن المؤكد أن المحور الداعم للثورات المضادة، لا يمكن أن يسمح بصعود ديمقراطية بجوار استبدادين، واحد متحقق في مصر والثاني مأمول في ليبيا. أتمنى أن تكون هذه القراءة خاطئة، لكن محك صوابها، من عدمه، هو الطريقة التي سيتعامل بها وزير الدفاع السوداني، الجنرال عوض بن عوف، مع عدد من المسؤولين الكبار، من أمثال صلاح قوش؛ إن هو اعتقلهم أو وضعهم رهن الإقامة الجبرية، فسيكون قد انحاز إلى الشعب، وإن هو اكتفى باعتقال شخصيات من الصف الثاني والثالث، فالأمر لن يكون غير انقلاب، واستبدال وجه مستبد بآخر مثله.