شكّلت الصحراء جوهر العلاقات المغربية الخليجية طيلة العقود الأربعة الأخيرة. فرغم الطابع الودي والإيجابي لهذه العلاقات منذ حصول المغرب على استقلاله منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، إلا أن دخول المملكة حرب استرجاع نصف ترابها الجنوبي الذي بقي تحت الاستعمار الإسباني، نقل الروابط المغربية مع كبرى دول الخليج العربي، إلى مستوى التحالف الاستراتيجي الذي لم تنل منه التقلبات الدولية والإقليمية الكبرى التي عرفها العالم. تحالف يجد تفسيره أولا، في الطبيعة التضامنية للعلاقات بين الملكيات العربية، خاصة أن فترة ما بعد خروج الاستعمار الأوروبي من المنطقة، اتسمت بمدّ جمهوري أطاح بكثير من العروش من العراق إلى ليبيا، ومرورا بمصر. كما أن هذه العلاقة الوثيقة، وجدت تفسيرها الموضوعي في التبادل شبه المتكافئ للمصالح، حيث كان المغرب محتاجا بشكل دائم إلى الدعم المالي من حلفائه الخليجيين، في مقابل تعويل هؤلاء على الدعم الأمني والعسكري المباشر من جانب المغرب. التقاء موضوعي ارتبطت هذه العلاقات المغربية الخليجية، أساسا، مع المملكة العربية السعودية، ثم الإمارات العربية المتحدة عقب تأسيسها من طرف الراحل زايد بن سلطان آل نهيان. فالصلة بين ملك المغرب وعاهل بلاد آل سعود، تحققت بمجرد حصول المغرب على استقلاله وتخلّصه من الحماية الفرنسية. كان المغرب منذ البداية يشكل القطب الثاني للنظام الإقليمي العربي، إلى جانب المملكة العربية السعودية، حيث كانت هذه الأخيرة تبادر إلى طلب الدعم والتأييد المغربيين، كلما بادرت إلى اتخاذ خطوة سياسية باسم المنطقة العربية، كما كان الحال مع دعوة الرياض إلى مساندة مصر خلال تعرضها للعدوان الثلاثي عام 1956. شهورا قليلة بعد ذلك العدوان، سوف يقوم الملك سعود بن عبد العزيز بزيارة رسمية إلى المغرب، قادته إلى كل من الرباط والدار البيضاء، استقبل خلالها باحتفاء كبير. وعندما قررت الدول الإسلامية تأسيس منظمة إقليمية تنسق قراراتها، لم يكن ذلك ليتم بدون مظلة سعودية واحتضان مغربي، حيث جرى إعلان تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي في الرباط عام 1969. هذا التناغم المغربي السعودي، سوف يتحوّل إلى التحام وارتباط عضوي مع دخول المغرب معركة استرجاع صحرائه الخاضعة للاستعمار الإسباني. فمع التحركات الدبلوماسية الأولى التي قام بها المغرب في بداية السبعينيات، كانت المملكة العربية السعودية تقود الدول العربية دعما للمطالب المغربية في الأممالمتحدة، وأمام المنتظم الدولي. بل إن الرياض قامت بمراسلة إسبانيا رسميا باسم جميع الدول العربية، مطالبة إياها بالاستجابة لمطالب المغرب باسترجاع صحرائه، باعتبار ذلك حقا تاريخيا وسياديا مشروعا، وخطوة ضرورية في استكمال بناء نظام إقليمي عربي يكفل الحد الأدنى من التضامن والاتحاد في مواجهة القوى الدولية الكبرى. الخليج في خندق المغرب جزء من الوثائق الحديثة التي رفعت عنها السرية ضمن الأرشيف السري للإدارة والمخابرات الأمريكيتين، يكشف عمق الارتباط الذي كان يجمع المغرب بالعربية السعودية في أوج معركته لاستكمال وحدته الترابية. الوثائق المتعلقة بهذا الموضوع، والتي اطلعت عليها “أخبار اليوم”، تتحدث عن المسيرة الخضراء التي نظمها الملك الراحل الحسن الثاني، باعتبارها ملحمة تاريخية تقدّر كلفتها المالية بحوالي 300 مليون دولار، تم تمويلها من مساعدات خارجية وسعودية على الخصوص، “لكن، أيضا، من خلال اكتتاب وطني. فالذين لم يشاركوا في المسيرة كانوا مدعوين للقيام بتبرع طوعي تم تحويله بعد ذلك إلى “قرض لفائدة الصحراء” في سياق نداء وجهه الملك. الدعم المالي السعودي لم يقتصر على تنظيم المسيرة الخضراء، بل شمل منذ ذلك الحين الجهد العسكري الذي بذله المغرب، ومازال، لتأهيل وتقوية جيشه لمواجهة المشروع الانفصالي الذي استنبته “خصوم الملكيات” يتقدمهم الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي. فأهم ما كان الحسن الثاني يطالب به الأمريكيين عشية تنظيم المسيرة الخضراء، كان دبابات عسكرية يتراوح عددها ما بين 80 و100 دبابة، وذلك تحسبا للحرب التي كانت شبه حتمية. فالنوايا القتالية التي صرّح بها الحسن الثاني رسميا للأمريكيين في حال اعتراض مخططه لاسترجاع الصحراء، سرعان ما ستؤكدها وثيقة استخباراتية سرية، توصّلت بها الإدارة الأمريكية يوم 3 أكتوبر 1975. الوثيقة قالت إن معلومات مؤكدة تفيد أن “الملك الحسن الثاني قرّر اجتياح الصحراء خلال الأسابيع الثلاثة المقبلة، وسيبدأ الهجوم المغربي مباشرة بعد انتهاء شهر رمضان، والملك واثق من ربحه لهذه الحرب، لكون جلّ القوات الإسبانية الموجودة في الصحراء ضعيفة التكوين، ولن تقاتل”. الوثيقة نفسها أوضحت أن القوات الجوية الإسبانية الموجودة في جزر الكناري بدورها ضعيفة ولن تستعمل ضد المغرب، وأن هذا الأخير يحضّر لمواجهة عسكرية مع الجزائر التي ستتدخّل فور اقتحام المغرب للصحراء. وتضيف الوثيقة الاستخباراتية أن المغرب يعوّل على دعم عسكري عربي في حال دخوله في مواجهة مع الجزائر، دعم قالت الوثيقة إنه سيأتي، أساسا، من كل من سوريا ومصر اللتين ستردان الجميل للمشاركة المغربية في حرب 1973 ضد إسرائيل، بالإضافة إلى قوات من المملكة العربية السعودية. لُحمة سياسية لم يكن هذا الدعم والتأييد الخليجيين للموقف المغربي مجرد موقف عابر، بل تحوّل منذ ذلك الحين إلى لُحمة جعلت المغرب في قلب النظام الإقليمي الخليجي رغم بعده الجغرافي. ففي سنة 1975، أي لحظة انطلاق المعركة المغربية في الصحراء، صادقت القمة السادسة لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي انعقدت بمدينة جدة، على تأسيس لجنة القدس، وأسندت رئاستها إلى ملك المغرب، وذلك بدعم دول تتقدمهم المملكة العربية السعودية. بل إن آل سعود حرصوا على المشاركة المباشرة في المسيرة الخضراء، عبر وفد تقدّمه الشيخ عبدالله العتيمي. هذا الوفد الرسمي حظي باستقبال خاص من الملك الراحل الحسن الثاني بمدينة مراكش، بحضور السفير السعودي بالمغرب حينها، فخري شيخ الأرض، وخاطبهم الملك المغربي قائلا: “إن شعبنا الذي يكن للمملكة العربية السعودية كل إجلال وإكبار سوف يكتب مشاركتكم في هذه المسيرة، لا أقول بمداد من ذهب، بل سوف ينقشها في قلبه وفي أجساده وفي شرايينه، وسوف يبقى يتوارثها الأجيال عن الأجيال”، وذهب الحسن الثاني إلى أن “العرب الذين حباهم الله بأن يكونوا خدام وحراس الحرمين، يحرسون، كذلك، ويخدمون القضايا العربية ولو كانت في أقصى المغرب”. وإلى جانب الدعم السعودي الدائم للمغرب، خاصة في دواليب السلطة في واشنطن ومع كبار تجار السلاح الذين لا يقبلون البيع بدون ضمانات مالية، تعزز الرابط المغربي السعودي سياسيا مع مرور السنوات، حيث قام الملك خالد بن عبد العزيز بزيارة إلى المغرب في ماي 1979، تم خلالها إحداث لجنة سعودية مغربية دائمة على المستوى الوزاري برئاسة وزيري خارجية البلدين، فيما ستكون الحروب الكبرى التي عرفتها منطقة الخليج، خاصة حرب الخليج الثانية، لحظة لرد الجميل من جانب الحسن الثاني لأصدقائه الخليجيين. فإقدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على اجتياح الكويت في 2 غشت 1990، جعل الراحل الحسن الثاني يُقدِم بدون أدنى تردد، على الرغم من الرأي العام المحلي المتعاطف مع صدام، على الوقوف في خندق أصدقائه الخليجيين. فالمغاربة يذكرون الخطاب التلفزيوني، الذي وجهه الحسن الثاني إلى الرئيس العراقي، داعيا إياه إلى سحب قواته من الكويت. ورغم محاولاته لعب دور الوساطة لنزع فتيل الحرب، إلا أن المغرب لم يتأخر في توفير الدعم العسكري الميداني لحلفائه الخليجيين، من خلال إرساله حوالي 1200 من جنوده إلى المملكة العربية السعودية، وقرابة 500 جندي آخرين إلى الإمارات العربية المتحدة. دعم أمني مغربي الامتناع المغربي عن الانخراط المباشر في آخر حرب كبيرة عرفتها منطقة الخليج، أي الاجتياح الأمريكي للعراق لعام 2003، لم يمنع استمرار التنسيق المحكم والمستمر بين الرباط وجلّ العواصم الخليجية، عبر تكثيف تبادل الخبرات، وهو ما يتفوّق فيه الجيش المغربي بفضل تجربته الكبيرة في حرب الصحراء، وقُربه من المدارس الأوروبية العريقة في المجال العسكري، خاصة منها المدرسة الفرنسية، والتعداد الكبير لقواته العسكرية. وفي السنوات الموالية التي اتسمت بانكماش العلاقات الخارجية للمغرب، وانسحابه من جلّ مواقع التأزم الدولي، توالت مجالات التنسيق والتعاون الأمني والعسكري، من خلال “الكرم” الحاتمي لدول الخليج، خاصة منها العربية السعودية والإماراتالمتحدة، بتمويلهما لعدد من صفقات التسلّح المغربية، مستثمرة بذلك علاقاتها الوثيقة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومُحدثة توازنا استراتيجيا في منطقة المغرب العربي، حيث لم يكن للمغرب أن يصمد أمام سباق التسلّح الجنوني الذي تفرضه عليه الجزائر عبر ملاييرها من البترو دولار، لولا هذا التدخّل الخليجي لمواجهة تدفّق السلاح الروسي على الجيش الجزائري. دعم سوف يبلغ ذروته السياسية أوائل العام 2016، حيث كانت دول الخليج العربي، خاصة السعودية والإمارات، سندا للمغرب في معركة خطيرة خاضها في الأممالمتحدة. دعم تزامن مع انخراط الرباط من جديد في حروب الخليج، من خلال مشاركة قوات مغربية ضمن التحالف العربي الذي قادته العربية السعودية ضد الحوثيين في اليمن. ففي أبريل 2016، فشلت جميع محاولات التوفيق بين الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون والمغرب عشية اجتماع مجلس الأمن الدولي لإصدار قرار حول الصحراء. ومع اقتراب ساعة الحسم ارتفع إيقاع التحركات والتحركات المضادة داخل أروقة الأممالمتحدة، وفي مقابل الاجتماع غير الرسمي الذي دعت إليه أنغولا، أعضاء مجلس الأمن الدولي للاستماع إلى المبعوث الخاص للاتحاد الإفريقي في ملف الصحراء؛ سارع المغرب إلى تفعيل نتائج القمة المغربية الخليجية التي انعقدت أسبوعا واحدا قبل ذلك في الرياض، ودعا الممثلين الدائمين لدول مجلس التعاون الخليجي الست، إلى اجتماع مع نظيرهم المغربي، بهدف التصدي لأي مشروع قرار تعدّه الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويتضمن مقتضيات لا تخدم مصلحة المغرب. لحظة الشرخ ربما كان ذلك آخر تجسيد للحلف المغربي الخليجي القائم على تبادل المصالح، فالكلمة التي ألقاها الملك محمد السادس أمام القمة المغربية الخليجية في أبريل 2016، تضمنت لغة قوية غير معهودة في مثل هذه المحافل، حيث حذر من تحالفات جديدة يجري تحضيرها في المنطقة من شأنها “إشعال الفتنة”. فيما همس ملك المغرب في آذان أصدقائه الخليجيين قائلا، إن ما يجمع الطرفين هو شراكة استراتيجية، والتي جاءت كنتاج مسار مثمر من التعاون، وتابع أن “الشراكة المغربية الخليجية، ليست وليدة مصالح ظرفية، أو حسابات عابرة. وإنما تستمد قوتها من الإيمان الصادق بوحدة المصير، ومن تطابق وجهات النظر، بخصوص قضايانا المشتركة. لذا، نجتمع اليوم، لإعطاء دفعة قوية لهذه الشراكة، التي بلغت درجة من النضج، أصبحت تفرض علينا تطوير إطارها المؤسسي، وآلياتها العملية”. خطاب يبدو أن البعض لم يستوعبه حتى الآن، وهو ما يفسّر الفترة الضبابية التي تمر منها العلاقات المغربية الخليجية حاليا.