في «المونولوغ» الذي ألقاه رئيس الحكومة السابق، السيد عبدالإله بنكيران، من صالون بيته، أمام عدسات إعلامية مختارة، سوّغ حصوله على معاش استثنائي، ضمن مسوغات أخرى، بكونه جزء من تاريخ الدولة المغربية. السيد بنكيران، فعلا جزء من تاريخ الدولة المغربية، لكنه ليس الوحيد، وليس أبدا الجزء الأهم. إلى الآن، لم يثبت أن تجربته نقلت المغرب إلى حيث فشلت تجربة التناوب مع الاتحاد الاشتراكي. وعوض قياس تجربته مع تجربة اليوسفي من زاوية المنجز الديمقراطي، ذهب الأمين العام السابق لحزب المصباح إلى مقارنة تلقيه معاشه مع تلقي السيد عبدالرحمان اليوسفي معاشه من الدولة. وهنا أختلف معه من زاوية منطقية. لأنه لو كانت الرسالة، أو وجه الحجة، هي لماذا لا تنتقدون اليوسفي، أيضا، فيا صديقي نحن ننتقد اليوسفي، كذلك، ومعه كل من يحصلون على تقاعد سمين من ممارسة السياسة. السيد اليوسفي رجل سياسي متألق وصاحب تاريخ نضالي كبير، على العين والرأس، لكن هذا لا يعني الدفاع عن حصوله على تقاعد بقيمة مالية مرتفعة من الدولة مدى الحياة. وإن كنتُ أعترضُ على حجج ومسوغات الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية من زاوية تماسكها المنطقي، فأرى أن كل هذه الحركة التي تُثار حول هذا المعاش فارغة من أي معنى، وتدخل في معركة جارية بين الحزب الذي يتقلب في نعماء السلطة، وجهات تريده أن يؤدي ثمن هذا التنعم. وقد حصل الأمر من قبل. السؤال الحقيقي في نظري، هو ما الذي قد تعنيه عودة السيد بنكيران للسياسة؟ هذا الأخير يقول إنه يعود إلى السياسة دون نية في الترشح، لا في انتخابات حزبية، ولا في انتخابات تشريعية. وهذا في الحقيقة موقف لافت فعلا. فهذا هو بالضبط الموقف الذي تعبر عنه وتمارسه العدل والإحسان عبر دائرتها السياسية. تمارس السياسة نقدا واعتراضا، دون أن تكون طرفا فاعلا فيها. في حالة العدل والإحسان، لأن الظروف غير مهيئة لممارسة سياسة «شريفة»، وفي حالة السيد بنكيران لأنه لم يعد مرغوبا فيه. فكأن مقاربة العدالة والتنمية تعتنق مقاربة العدل والإحسان بعد سنوات من الممانعة. وهو عناق تتداخل فيه عوامل مخزنية وفلسفية وخاصة. مقاربة العدل والإحسان تبقى مريحة للمخزن إلى حد ما، لكن ليس كثيرا. ففي مواجهة الانتقادات الحادة التي تصل إلى أعلى هرم السلطة من طرف العدل والإحسان، تعاني الأخيرة من حصار قوي إعلاميا ومؤسسيا على الخصوص. فهل يُترك السيد بنكيران يتحول إلى ما يشبه معتز مطر المملكة دون أي مضايقات؟ يخرج كل يوم على «يوتيوب» ناقدا، منبها، معترضا، فاضحا، مضحكا ومعلقا على أحداث وقضايا متفرقة، بينما التماسيح والعفاريت تشاهد في صمت آلة إعلامية تدمر صورتها؟ نعم، آلة إعلامية. من يجد في كلامي مبالغة، ليرجع إلى الأبحاث التي تحدثت عن القدرة الخارقة التي أبانت عنها الرسائل الموجهة عبر شبكات التواصل الاجتماعي في التأثير على القرارات السياسية. ولو لا معرفة أصحاب الحال بفعالية «السلاح» القابع في حي الليمون، لما جعلوا من معاشه مثارا للجدل، لأن قوة هذا السلاح تكمن في سلامته من الريع. لأن أي شبهة ريعية كفيلة بإسقاطه. ولذا خرج مدافعا بقوة عن معاشه «المستحق» في نظره، وحاول تبرئة نفسه من تهمة الريع، التي متى التصقت به، ستنهي أسطورة رئيس الحكومة المتعفف. وإذا وضعنا جانبا صراع الجبابرة هذا الذي يدور فوق رؤوسنا، لدي انتقادات بالجملة ل»خرجة» رئيس الحكومة الأخيرة، سأكتفي منها بالآتي: في نظري، كان السيد بنكيران يزّكي نفسه بالمعنى الديني الحرفي للكلمة طيلة ذلك الحوار، وهنا أتساءل أليس من أدبيات الحزب عدم تزكية النفس و»لا نوليها من يطلبها» وما إلى ذلك؟ أم أنه هنا يُسمى تسويقا سياسيا وتواصلا ومواجهة للخصوم؟ وإذا صح ذلك، صح أن من حق المرء التسويق لنفسه وإنجازاته، فما فائدة الاستمرار في العمل بقاعدة «لا نوليها من يطلبها»، مع ما يعنيه ذلك من تجديد شجرة أنساب بعينها داخل قيادة الحزب وأجهزته المسيرة؟ وحين يرى السيد بنكيران أن وضعه لا يسمح له بالذهاب للمقاطعة والمصادقة على الوثائق، فأي صورة متضخمة هذه التي يحملها على نفسه وأي معنى هذا الذي يعطيه للسياسة ورجل السياسة؟ تبدو السياسة هنا مجرد وسيلة لتحصيل وضع اعتباري خاص يغني المرء عن انتظار الدور مع الشعب في المقاطعات. وإذا كان السيد بنكيران لا يريد العودة لأي منصب، ويعارض الملكية البرلمانية، وينعت حَراك 20 فبراير بالورقة غير الموقعة، ويخالف توجهات بعض قيادات حزبه نفسه، فماذا يريد أن يصنع؟ يريد مثلا من المغاربة أن يصوّتوا مرة أخرى على حزب العدالة والتنمية، الذي يسيطر عليه تيار السيد العثماني، وفاءً لبركة الأمين العام السابق؟؟ حين عصفت الردة الحقوقية بالمملكة، انحنى الحزب للعاصفة، وترك الشعارات التي حملها تتناثر وسط دوّامتها ومن اعتقدوا بتلك الشعارات يتناثرون في السجون والمحاكم، ولم يعد الرأي العام المغبون في أحلامه هو المهم، صار تماسك الحزب الداخلي هو الأهم، والآن، يقرر السيد بنكيران الرجوع إلى السياسة ويتفضل على الرأي العام ب»لايفات» على الفايسبوك لتأطيره. أنت، يا سيدي، خرجت في هدوء حمايةً لحزبك من الانقسام، وأن تعود الآن، بقوة دفاعا عن حزبك أيضا، الرأي العام ليس إلا حطب التدفئة.