على مدى أكثر من أسبوع، وأنا أتابع عناوين الحملة الإعلامية التي تقودها بعض الصحف ضد رئيس الحكومة السابق عبدالإله بنكيران. في البدء، كان الافتراض التفسيري، أن الانتقادات احتدت على خلفية المعاش الاستثنائي، لكن تبين من خلال فرز العناوين، أن الأمر أكبر من ذلك. طوال فترة الحملة، يمكن أن نحصر أكثر من عشرين اتهاما، يتراوح، بين ترويج أخبار كاذبة، وبين اجتراح قراءات متحاملة حول موضوع المعاش الاستثنائي، وبين اتهامات خطيرة حول دوره السياسي المرتقب. في البدء، انطلقت الحملة من قاعدة كشف التناقض بين أقوال رئيس الحكومة وبين أفعاله في موضوع الريع والمعاش الاستثنائي، لإلصاق وصم النفاق والازدواجية في سلوكه السياسي، ثم انتقلت إلى الطعن في مصداقيته عبر الادعاء أنه يملك ثروات وممتلكات كثيرة، وأنه دخل نادي الريع السياسي، وأنه لم يكن في مستوى زُهد اليوسفي وعبدالله إبراهيم، ثم تحولت الحملة في طورها الثالث، إلى نشر اتهامات تتعلق بدوره السياسي المرتقب، باتهامه بمحاولة إسقاط حكومة العثماني وإعادة التموقع في حزبه والعودة من جديد لرئاسة الحكومة من بوابة انتخابات سابقة لأوانها، وباتهامه بتحريك جيش إلكتروني من أجل تشويه الأحرار وقيادته، وخلق بؤر التوتر داخل الأغلبية الحكومية وتسهيل عملية إسقاط الحكومة، وباتهامه بالاختباء وراء الملك لإضفاء المشروعيةعلى مواقفه، والتهرب من المسؤولية ورميها في ملعب أعلى سلطة في البلد للخروج من مأزق سياسي وضع فيه!! لا يهم هنا اختبار مصداقية هذه التهم، ولا نزاهة ومهنية من روجها، كما ليس القصد إثبات صحتها من عدمه، فقد كشف رئيس الحكومة السابق في الندوة الصحافية التي أقامها في بيته روايته، وأجاب عن هذه الاتهامات، مما يمكن للقارئ والمتابع أن يخرج منها بتصور للموضوع، لكن، الذي يهم بالنسبة إلى الوعي السياسي، هو تفسير خلفيات هذه الحملة، وأيضا خلفيات خروج بنكيران للرد عليها. تَتَبّع مراحل الحملة الإعلامية، وخاصة في مرحلتها الثالثة، يفيد أن الموضوع كله يرتبط بدوره السياسي المرتقب، وليس بشيء آخر، وأن هناك جهات ما، لاتزال تتخوف من هذه العودة، والمفارقة أن عددا من الزملاء الصحافيين ممن تورطوا في هذه الحملة، لم يشعروا بأنفسهم وهم يدعون رئيس الحكومة السابق إلى الابتعاد عن السياسة، بل يدعون الدولة إلى حرمانه من لعب دور مستقبلي في السياسة بعد قبوله للمعاش الاستثنائي! بنكيران فهم الرسالة مبكرا، وأكد أكثر من مرة، على أنه لن يغادر مربع السياسة، بل ألقى في المشهد السياسي الجامد عددا من الأفكار التي من شأنها أن تعيد رسم قواعد السياسة في المستقبل، وذلك حين دعا إلى ضرورة حصول توافقات كبرى بين الدولة والقوى الديمقراطية، على قاعدة إنهاء مرحلة الشد والجذب، والتأكيد على أن الإصلاح ينبغي أن يتم ضمن سقف الملك الذي يسود ويحكم، مقابل تطوير النسق السياسي المغربي برمته، وبشكل خاص العلاقة بين المؤسسات، بل إنه بعث بمواقف قوية من شأنها أن تفسد ديناميات في السياسة يراهن عليها، وتوعد بفضح «المايسترو»، الذي يفسد تأطير الرأي العام، على حد تعبيره. حصيلة تفاعل الرهانات المتقابلة، وخارج اعتبار موضوع المعاش الاستثنائي، أن بنكيران حقق مكاسب كثيرة. فقد نجح أن يلزم حزبه بالتضامن معه في بلاغ رسمي للأمانة العامة، التي كان يفترض أن تبادر لذلك منذ انطلاق الحملة، ونجح في إظهار عدم وجود أي بؤرة توتر بينه وبين الدولة، بل تفوق في قدرته على تقديم عرض سياسي جديد، يمكن أن يشكل مضمون توافقات كبرى بين القوى الديمقراطية وبين المؤسسة الملكية، يعفي الدولة من السقوط مرة ثانية في فخ «البلوكاج»، الذي نصبته اللوبيات وجماعات المصالح الخائفة على مصالحها، ونجح، أيضا، في أن يقدم وبكل جرأة رؤيته للتهدئة في الريف، لإزالة الاحتقان السياسي والاجتماعي في البلد، وأظهر قدرته على إرباك بعض الديناميات التي تعاكس إرادة الإصلاح. أن تكون شعبية بنكيران تأثرت بقبوله للمعاش الاستثنائي، هذه فرضية ممكنة، لكنها غير مثبتة. المثبت أن بنكيران نجح في تقديم عرض سياسي في فترة دقيقة بمضمون سياسي قوي، في الوقت الذي لم يستطع أي حزب أن يحلحل الوضع السياسي الجامد، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية نفسه.