أعاد قرار قاضي التحقيق بفاس متابعة وإحالة، عبد العلي حامي الدين، الأستاذ الجامعي والبرلماني عن حزب العدالة والتنمية، على الغرفة الجنائية بمحكمة الاستئناف بفاس، الجدل، مرة أخرى، حول علاقة حامي الدين بمقتل محمد آيت الجيد (بنعيسى) سنة 1993، كما أثار القرار نفسه جدلا ثانيا حول مدى استقلالية القضاء عن التأثيرات السياسية، خصوصا أن القرار الأخير لقاضي التحقيق جاء بعد قرارين؛ الأول للوكيل العام للملك سنة 2012، والثاني لقاضي التحقيق في المحكمة نفسها سنة 2013، قضيا معا بحفظ الملف، بعلة أنه سبق البت فيه بقرار قضائي نهائي مكتسب قوة الشيء المقضي به سنة 1994. فما الذي وقع سنة 1993 بجامعة فاس تحديدا؟ وما علاقة حامي الدين بذلك؟ ماذا يقول الشاهد الوحيد (الخمار الحديوي) في القضية؟ ولماذا يُعاد فتح الملف بعد مرور 25 سنة على وقوع الحادثة؟ وما علاقة ذلك بالصراع السياسي بين حزب العدالة والتنمية وخصومه؟ سياق مقتل آيت الجيد تتضارب الروايات حول ظروف سقوط آيت الجيد بنعيسى قتيلا يوم 25 فبراير 1995. لكن المؤكد أن آيت الجيد سقط قتيلا في مواجهات بين فصائل إسلامية وأخرى يسارية قاعدية. ففي بداية التسعينات، شهدت جامعة فاس ظهر المهراز، التي كانت تسيطر عليها فصائل اليسار القاعدي، مواجهات متكررة وعنيفة، بعضها كان بين فصائل اليسار التقليدي (الحزبي) وفصائل اليسار القاعدي بمختلف ألوانه، وبعضها الآخر كان بين فصائل اليسار القاعدي نفسه (قاعديون تقدميون في مواجهة قاعديي البرنامج المرحلي)، أو البرنامج المحلي في مواجهة من يسمون «التروتسكيون». وفي سنوات لاحقة، انقسم فصيل البرنامج المرحلي نفسه (فصيل قاعدي)، فخرجت منه مجموعات متنافسة قاتل بعضها بعضا. لكن، يمكن القول إن المواجهات الكبرى كانت بين هؤلاء القاعديين وفصائل إسلامية، بالنظر إلى التناقض الجذري بين الطرفين فكريا وسياسيا وإيديولوجيا. في هذا السياق، يمكن القول إن المواجهة التي ذهب ضحيتها آيت الجيد بنعيسى، كانت خلفيتها رغبة الإسلاميين في فرض وجودهم داخل الجامعة، فيما كانوا يُمنعون من قبل فصيل القاعديين التقدميين الذي هيمن على الجامعة المغربية عموما، وجامعة فاس خصوصا، منذ نهاية السبعينيات حتى بداية التسعينيات، ما أدى إلى أحداث عنف متكررة. الشهادات التي تفسر تلك الأحداث كثيرة ومتباينة، وتكاد لا تنتهي، كأن يربط الإسلاميون العنف بممارسات فصائل يسارية تؤمن ب«العنف الثوري»، وتمارسه في الجامعة ضد من تصفهم ب«الظلاميين»، أي الإسلاميين. وفي المقابل، يتحدث القاعديون عن ممارسات نقيضة، مثل «التكفير» و«التطرف»، و«الجهاد»، ومحاولة فرض الذات باستخدام العنف. ومما لا شك فيه أن بين الطرفين حتى اليوم خصومة تاريخية مستمرة بشكل أو بآخر، وفي أكثر من جامعة. وقد حدثت في السنوات الأخيرة أحداث مماثلة، خصوصا بين القاعديين وتيار الحركة الأمازيغية، وأحيانا بين الإسلاميين والقاعديين، من ضحاياها، على سبيل المثال، الطالب عبد الرحيم الحسناوي، عضو منظمة التجديد الطلابي، الذي قتل في أبريل 2014، على يد طلبة قاعديين ينتمون إلى فصيل البرنامج المرحلي. لكن، ما صلة حامي الدين بواقعة مقتل آيت الجيد؟ هناك روايتان جوابا عن هذا السؤال؛ الرواية الأولى يقدمها صديق آيت الجيد، المسمى الخمار الحديوي (كلاهما كان ينتمي إلى فصيل الطلبة القاعديين التقدميين في جامعة فاس)، والذي بات يقدم أمام القضاء باعتباره الشاهد الوحيد في القضية، علما أنه كان متهما فيها، وقضى سنتين حبسا بسبب ذلك، لكن رواية الحديوي تختلف وتتجدد من وقت إلى آخر، أما الرواية الثانية فهي لحامي الدين نفسه، المشتكى به أكثر من مرة. حسب رواية الخمار الحديوي، فإن مقتل آيت الجيد وقع يوم 25 فبراير 1993، وحصل ذلك حين كانا متوجهين معا (آيت الجيد والحديوي) في سيارة أجرة من وسط ساحة جامعة فاس ظهر المهراز إلى حي القدس-ليراك. وفي طريقهما نحو الحي المذكور، وبالقرب من مقهى الزهور ومعمل كوكاكولا، جرت عرقلة طريق سيارة الأجرة من طرف سيارة تحمل ترقيما خارجيا يجهل الحديوي نوعها، ولا يتذكر لونها. في تلك الأثناء التف حول سيارة الأجرة مجموعة من الأشخاص، يتراوح عددهم بين 25 و30 شخصا، وبينما هرب سائق السيارة، شرع أعضاء المجموعة في تعنيف وضرب آيت الجيد والخمار الحديوي، انتهى بمقتل آيت الجيد. لكن وسط هذه الرواية هناك تفاصيل تحضر وأخرى تختفي من محضر قضائي إلى آخر. فعلى سبيل المثال، في محضر ضابط الشرطة القضائية بفاس، المؤرخ في 22 فبراير 2012، يقول الخمار حرفيا: «لا أستطيع أن أؤكد لكم هل كان عبد العلي حامي الدين حاضرا أم لا وقت الاعتداء الذي تعرضنا له، أنا ومحمد آيت الجيد، لسبب واحد أن المجموعة كانت تتكون من 25 إلى 30 فردا، وكما ذكرت، فقد التقتيه أول مرة في السجن». وهي شهادة صريحة من الخمار الحديوي، تؤكد أنه لم يتعرف على حامي الدين شخصيا إلا في السجن، حيث قضيا المدة التي حكم عليهما بها على ذمة مشاركتهما في شجار بين الطلبة، أدى إلى مقتل آيت الجيد، لكن الخمار نفسه سيعود إلى النقطة نفسها في محضر الاستماع إليه من لدن قاضي التحقيق بفاس يوم 19 أبريل 2018، ليقول حرفيا إن «حامي الدين هو من وضع رجله على عنق بنعيسى، وهو ساقط أرضا، وسمع بنعيسى يصرح بعبارة: أخويا الخمار أنا مشيت». فما الذي يجعل الخمار الحديوي يقول إنه لا يستطيع الجزم بمشاركة حامي الدين في الشجار من عدمها سنة 2012، ثم ينقض كل ذلك في سنة 2018 ويقول أول مرة إن حامي الدين هو من وضع رجله على عنق آيت الجيد قبل صدم رأسه بالرصيف، ما أدى إلى وفاته لاحقا في المستشفى. شيء ما وراء هذا التحول يقتضي توضيحا من الحديوي الذي يزعم أنه شاهد محايد، وتفيد الروايات التي قدمها حتى الآن أنه ليس كذلك في نظر دفاع المشتكى به. الرواية الثانية قدّمها عبد العلي حامي الدين نفسه، الذي قضى سنتين حبسا نافذا على خلفية القضية نفسها بقرار قضائي مكتسب قوة الشيء المقضي به (قرار نهائي)، صدر بصدده قرار تحكيمي لهيئة الإنصاف والمصالحة بتاريخ 30 نونبر 2005، يؤكد الطابع التحكمي لاعتقال حامي الدين، وقضت له الهيئة بتعويض لجبر الضرر قدره 80 ألف درهم. يقول حامي الدين «كنت بدوري ضحية اعتداء تعرضت له في باب كلية الحقوق في شهر فبراير 1993، ونقلت على إثره إلى المستشفى من طرف أستاذ جامعي جليل اسمه الدكتور محمد العويني، وهو أستاذ بكلية العلوم. هذا الأستاذ هو الذي أنقذني من الموت، وكان يمكن أن أكون في مكان المرحوم بنعيسى آيت الجيد». وأضاف حامي الدين: «نقلت إلى المستشفى وأجريت لي عملية جراحية مستعجلة على الرأس، وبعد ذلك سأتعرف لأول مرة في التاريخ على المرحوم بنعيسى في المستشفى. أقسم لكم بالله أنني لا أعرفه، ولم يسبق لي أن التقيته إطلاقا حتى رأيته في المستشفى حينما أُوتِي به وهو مصاب أيضا». ففي رواية حامي الدين إشارة أولى إلى أن آيت الجيد سقط قتيلا خلال مواجهة طلابية، أصيب فيها حامي الدين، كما أصيب آيت الجيد بنعيسى، مع فارق جوهري، وهو أن هذا الأخير (آيت الجيد) سقط أمام معمل كوكاكولا بعيدا عن كلية الحقوق بفاس، فيما أصيب حامي الدين في باب الكلية. أما الإشارة الثانية في رواية حامي الدين، فهي أنه أصيب في رأسه قبل آيت الجيد، والدليل على ذلك أن آيت الجيد لم يصل إلى المستشفى إلا بعدما أجريت عملية جراحية لحامي الدين على الرأس. أمام تضارب الروايات، لم تستطع المحكمة بفاس أن تثبت، حين عرض عليها حامي الدين وآخرون في حال اعتقال سنة 1993، علاقة حامي الدين بمقتل آيت الجيد، علما أن قاضي التحقيق حينها، أي سنة 1993، طلب متابعة حامي الدين بجناية الضرب والجرح المفضيين إلى الموت دون نية إحداثه، لكن المحكمة، وانطلاقا من شهادات الشهود ودلائل الإثبات التي توفرت لديها، قرّرت إعادة تكييف التهمة من جناية إلى جنحة، وقضت في حق حامي الدين والمختار الحديوي وشخص ثالث بسنتين حبسا نافذا، في حين رفضت محكمة النقض كل الطعون التي تقدم بها دفاع حامي الدين وغيره في القضية نفسها. في سنة 2005، تقدم عبد العلي حامي الدين بملفه أمام هيئة الإنصاف والمصالحة طالبا إنصافه، لاقتناعه بأن اعتقاله في قضية آيت الجيد كان تعسفيا، ولقناعته بأنه بريء، وأنه وقع ضحية اعتقال تعسفي خارج القانون، حيث أدلى لهيئة الإنصاف والمصالحة بالشواهد التي قدمها أيضا أمام المحكمة سنة 1993، بما فيها شهادة الأستاذ الجامعي محمد العويني، الذي نقل حامي الدين مصابا إلى المستشفى، فقد بلور أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة، وكان منهم إدريس بنزكري ومحمد النشناش وآخرون، قناعة مفادها أن اعتقال حامي الدين كان «اعتقالا تعسفيا». بعث القضية من جديد لكن، رغم كل ذلك، وفي الوقت الذي ظنّ الجميع أن القضية طويت، مادام القضاء بمختلف درجاته أصدر قرارا نهائيا في قضية حامي الدين وصلته بمقتل آيت الجيد، ومادامت هيئة الإنصاف والمصالحة قد توصلت إلى قناعة مفادها أن اعتقال حامي الدين وقضاءه سنتين حبسا نافذا كان اعتقالا تعسفيا، يُفاجأ الرأي العام سنة 2012، في غمرة الصراع السياسي، خصوصا بين حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة، وبعد مرور نحو 20 سنة على القضية، تقديم شكاية أمام الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بفاس ضد حامي الدين، لكن الوكيل العام للملك، وبعد الاستماع إلى أطراف الشكاية والمشتكى به، قرر الحفظ، معللا قراره بالتالي: «قررنا حفظ الشكاية في مواجهة عبد العلي حامي الدين لسبقية البت في القضية بمقتضى قرار قضائي». إثر ذلك أسست لجان يزعم أعضاؤها أنهم كانوا أصدقاء ورفاق آيت الجيد، منهم قيادات في حزب الأصالة والمعاصرة، وآخرون أعضاء ومسؤولون في حزب الاشتراكي الموحد، بدؤوا تحريك القضية من جديد في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وقدمت شكايات حول القضية نفسها إلى جهات قضائية مختلفة. فبعد الوكيل العام للملك، تقدمت الجهات نفسها بشكاية ثانية إلى قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس بتاريخ 8 أبريل 2013، لكن قاضي التحقيق، التي تسلم الشكاية، وبعد الاطلاع على الملف، أصدر قرارا يقضي بموجبه بعدم فتح تحقيق قضائي اعتمادا على المبدأ نفسه، أي سبقية البت في القضية، لأن القرار النهائي بشأنها صدر سنة 1994، وأصبح قرارا حائزا قوة الشيء المقضي به، وبمقتضاه قضى حامي الدين سنتين حبسا نافذا، حيث أدين من أجل الأفعال نفسها التي كان تضمنتها الشكايات الأولى والثانية والثالثة. ومما جاء في قرار قاضي التحقيق بفاس سنة 2013، قوله: «يتضح أن الأفعال المنسوبة إلى المشتكى به، عبد العلي حامي الدين، بمقتضى الشكاية المباشرة، قد سبق البت فيها بمقتضى قرار قضائي أصبح حائزاً قوة الشيء المقضي به، ولا تستوجب قانوناً إجراء المتابعة من جديد، على اعتبار أنه سبق أن توبع وحوكم من أجل الأفعال نفسها التي كان ضحيتها الهالك محمد آيت الجيد المعروف ببنعيسى»، وأضاف أن «الوقائع المعروضة في الشكاية المباشرة لا تستوجب قانونا إجراء المتابعة لوجود أسباب تمس الدعوى العمومية، وذلك طبقاً لصريح مقتضيات الفقرة الثالثة من المادة 93 من قانون المسطرة الجنائية». وأشار القرار إلى قواعد قضائية اعتبرها من صميم النظام العام القضائي، وبالتالي، فإن كل مسّ بها من شأنه أن يخل باستقرار أحكام القضاء، ويمس بمصداقية المؤسسة القضائية في نظر المجتمع، ومن ذلك قوله: «لا يخفى أن عدم قبول سماع الدعوى العمومية لسبق صدور أمر بالحفظ بشأنها من طرف النيابة العامة، إنما يندرج في صميم قاعدة قوة الشيء المقضي به»، وأضاف: «لا يمكن أن يخفى، أيضا، أن الدعوى العمومية تسقط بقوة القانون بصدور حكم سابق لا تعقيب عليه»، مؤكدا بصفة جازمة أنه «لا يمكن أن يتابع الشخص نفسه من أجل الوقائع نفسها مرتين، ولو وصفت بوصف قانوني آخر». قاضي تحقيق جديد وقرار جديد لم تقتنع الجهات التي تقدمت بالشكاية في المرة الأولى بقرار الوكيل العام للملك ولا بقرار قاضي التحقيق في المحكمة نفسها، بل انتظرت إحالة قاضي التحقيق، الذي فحص الشكاية الثانية، على التقاعد، لتتقدم بشكاية ثالثة بتاريخ 26 يوليوز 2017 ضمنتها مزاعم بوجود وقائع جديدة في الملف نفسه، ومعلوم أن الوقائع الجديدة تقتضي فتح تحقيق جديد، وإن كان الشخص قد حوكم من قبل، لكن بشروط دقيقة، فهل التزم بها قاضي التحقيق؟ بالعودة إلى قرار قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس، محمد الطويلب، المؤرخ في 7 دجنبر 2018، بشأن متابعة وإحالة حامي الدين على غرفة الجنايات بفاس بتهمة جديدة هي «المشاركة في القتل العمد مع سبق الإصرار»، سنلاحظ أن الأطراف هي نفسها؛ فالطرف المدني يتمثل في الحسن آيت الجيد وإبراهيم آيت الجيد، والمشتكى به عبد العلي حامي الدين، فيما الشاهد الوحيد منذ 2012 حتى اليوم هو نفسه، أي الخمار الحديوي. وبما أن المطالبين بالحق المدني لم يعاينا أحداث فاس 1993، فقد اعتمد قاضي التحقيق على شهادة الشاهد الخمار الحديوي فقط في تشكيل قناعته، والتي جاءت صادمة لأكثر من طرف حزبي وحقوقي وسياسي. وانطلاقا من نص القرار، ومقارنة بقرارات سابقة، يتبين أن الشاهد الخمار الحديوي تقدم، يوم 19 أبريل 2018، بإفادة جديدة لم يذكرها خلال الاستماع إليه في شهادات سابقة، وهي قوله إن «حامي الدين كان من بين الأشخاص الذين عرّضوا بنعيسى للضرب»، وإن «حامي الدين وضع رجله على عنق بنعيسى وهو ساقط أرضا، وسمع هو من بنعيسى يصرح بعبارة: أخويا الخمار أنا مشيت». والمثير أن قاضي التحقيق استند في قراره إلى هذا المعطى الجديد في شهادة الخمار الحديوي، ومما جاء في نص القرار أنه «بعد استنطاق المشتكى به ابتدائيا وتفصيليا، والاستماع إلى المطالب بالحق المدني، الحسن آيت الجيد، والشاهد الخمار الحديوي، تبين أن المشتكى به، عبد العلي حامي الدين، كان حاضرا وقت الاعتداء على الضحية بنعيسى آيت الجيد، وهو من وضع رجله على عنقه وهو ساقط أرضا ويصرح بعبارة: أخويا الخمار أنا مشيت». وبناء على شهادة الشاهد تلك، فقد اعتبر قاضي التحقيق أن «هذه الوقائع تشكل في حق المتهم أفعالا توصف بوصف جديد، وتختلف عن تلك التي سبق أن حوكم وأدين من أجلها بمقتضى القرار الصادر في حقه في الملف عدد 229-1993، والتي كانت متابعة من أجل المشاركة في مشاجرة أدت إلى وفاة، وبذلك يبقى ما أسفر عنه التحقيق الإعدادي من أفعال يستوجب المتابعة من جديد في حق المتهم». واستند نص قرار قاضي التحقيق إلى المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية في فقرتها الثانية التي تنص على أن «كل متهم حكم ببراءته أو بإعفائه، لا يمكن أن يتابع بعد ذلك من أجل الوقائع نفسها، ولو وصفت بوصف قانوني آخر». وفي تأويل لهذه الفقرة ربما يُعمل به أول مرة أمام القضاء المغربي، أشار نص القرار إلى أن «أثر مبدأ عدم جواز متابعة المتهم نفسه عن الوقائع ذاتها، ولو اتصفت بوصف قانوني آخر، محصور تحديدا في الأحكام الصادرة بالبراءة أو الإعفاء فقط، دون الأحكام القاضية بالإدانة، لذلك، قررنا متابعة المتهم من أجل جناية المشاركة في القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد». وأمام الدفع بمبدأ سبقية البحث، لجأ قاضي التحقيق إلى مخرج ضمّنه في نص قرار المتابعة، فإذا كان هذا المبدأ الذي تنص عليه المادة 4 من قانون المسطرة الجنائية يقول: «تسقط الدعوى العمومية بموت الشخص المتابع، وبالتقادم، وبالعفو الشامل، وبنسخ المقتضيات الجنائية التي تجرم الفعل، وبصدور مقرر اكتسب قوة الشيء المقضي به»، وأن هذا المقتضى الأخير ينطبق على حالة حامي الدين الذي سبق وأن أدين سنتين حبسا نافذا لصلته بتلك الأحداث، فإن قرار قاضي التحقيق جاء بمخرج قال فيه: «يخرج عن اختصاصنا كونه قُدم وقت القيام بإجراءات التحقيق وقبل إقامة الدعوى العمومية، وهو مرتبط بها، وبذلك يدخل ضمن اختصاص الجهة القضائية المحال عليها الملف، كونها هي التي تتولى دراسة الدعوى العمومية ومناقشتها، وبذلك قررنا عدم اختصاصنا للبت في الدفع على حالته». وهكذا أعفى قاضي التحقيق نفسه من تقديم جواب مقنع عن الدفع الذي تقدم به دفاع حامي الدين استنادا إلى مبدأ قار في المجال القضائي في كل دول العالم، ويعتبر من صميم النظام العام القضائي الذي لا يمكن الإخلال به، كما صرّح بذلك قاضي التحقيق السابق سنة 2013، وهكذا أصبح حامي الدين ملاحقا من جديد بقرار قضائي مثير للجدل. والحال أن الشاهد الخمار الحديوي يتناقض في أقواله، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإذا كان قد زعم، في شهادته الأخيرة أمام قاضي التحقيق بتاريخ 19 أبريل 2018، أن حامي الدين هو من وضع رجله على عنق الضحية بنعيسى حينما صدم رأسه ب«طروطوار»، فإن الشاهد نفسه سبق أن أدلى بما يناقض ذلك أمام ضابط الشرطة بالمجموعة الثانية للأبحاث بالمصلحة الولائية للشرطة القضائية بفاس، وفق محضر هذا الأخير المؤرخ في 20 فبراير 2012، حين قال إنه لا يستطيع الجزم بمشاركة حامي الدين في الشجار من عدمها سنة 2012، وإنه لم يكن يعرف حامي الدين نهائيا قبل التقائهما في السجن. هل هو قرار سياسي أم قضائي؟ أحدث قرار قاضي التحقيق بفاس جدلا سياسيا وقضائيا، حيث انقسم المعلقون عليه بين من يرى أنه قرار سياسي، وآخرون رأوا أنه قرار قضائي صرف. حكيم الوردي، نائب الوكيل العام للملك باستئنافية الدارالبيضاء، واحد من القضاء الذين خرجوا للدفاع عن قرار قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس في وجه كل من انتقد القرار واعتبره مسيّسا. واعتبر القاضي الوردي أن الفقرة الثانية من المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية، التي تكرس قاعدة سبقية البت، تسري على كل من حكم القضاء براءته أو إعفائه، حيث لا يمكن أن يتابع بعد ذلك من أجل الوقائع نفسها، ولو وصفت بوصف قانوني آخر، وهو ما يعني أن هذه القاعدة مقيدة وليس مطلقة، وتسري فقط على الذين برأتهم المحكمة أو جرى إعفاؤهم، ولا تسري على من جرت إدانتهم، كما هي حالة حامي الدين الذي سبق وأن أدين بسنتين حبسا نافذا. وتضيف الجهات التي تدافع عن قرار قاضي التحقيق بفاس أن المدان لا يستفيد من قاعدة سبقية البت، حتى لو أدين بالسجن وقضى المحكوم به، وإذا ظهرت معطيات ووقائع جديدة خلال قضائه الحكم النافذ في حقه، أو بعد انقضائه، فإن المحكمة يمكنها أن تتابعه من جديد بناء على تلك الوقائع الجديدة، التي حددها القانون حصرا في نوعين؛ إما شهود جدد، وإما مستندات وملفات جديدة لم تعرض من قبل على القضاء لمانع من الموانع. في المقابل، رأى معارضون أن قرار قاضي التحقيق خرق قواعد عامة مستقرة في العمل القضائي لا يمكن تجاوزها. أبرز المنتقدين كان الوزير مصطفى الرميد، وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، الذي اعتبر أن «الأمر لا يتعلق بوقائع يمكن الاختلاف بشأنها، ويبقى القضاء هو صاحب الكلمة الفصل فيها، ولا يتعلق الأمر باجتهاد في تطبيق القانون يخضع لقاعدة الصواب والخطأ، والذي يمكن أن يتلبس بأي اجتهاد.. كلا، الأمر يتعلق بقاعدة تعتبر من النواة الصلبة لقواعد المحاكمة العادلة، ومبدأ أصيل من مبادئ دولة الحق والقانون، والتي يعتبر خرقها خرقا خطيرا لقاعدة قانونية أساسية يوجب المساءلة، طبقا لمقتضيات القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة». والقاعدة التي أشار إليها الرميد هي سبقية البت، استنادا إلى المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي «نصت صراحة على أنه لا يجوز تعريض أحد مجددا للمحاكمة أو للعقاب عن جريمة سبق أن أدين بها أو برئ منها بحكم نهائي وفقا للقانون والإجراءات الجنائية في كل بلد». وأضاف الرميد أنه «سبق للنيابة العامة في مرحلة سابقة أن دفعت بسبقية البت، كما سبق لقضاء التحقيق في القضية نفسها أن اتخذ الموقف ذاته»، متسائلا: «فماذا وقع حتى تنحدر الأمور إلى هذا المستوى الذي لا يشرف بلدنا أبدا، بل يخدم العدمية ويزكيها، ويمنحها حجة قاطعة على صوابية موقفها؟». وجد البعض في موقف الوزير الرميد حجة للقول إن حزب العدالة والتنمية يقف ضد استقلالية مؤسسة القضاء، دفاعا عن أحد قيادييه، لكن الذي حدث أن هذا الحزب لم يبق وحيدا في «معركته»، إذ انضمت أحزاب أخرى إلى القضية، وتبنت موقفا أقرب إلى موقف حزب العدالة والتنمية، من ذلك موقف رئيس الفريق الاستقلالي، نور الدين مضيان، الذي تساءل: «واش حنا خصنا غير هاد الملفات في البلاد؟ سالينا الأوراش، وسالينا كلشي، بقا لينا غير ملف حامي الدين؟»، وأضاف: «ألا يوجد غير ملف حامي الدين؟ أنا لا يهمني حامي الدين ولا شخص حامي الدين، لكن الذي يهمنا هو دولة الحق والقانون بدرجة أولى. الذي يهمنا كذلك هو السعي إلى الأمان من أجل صيانة وحماية هذه القواعد»، لافتا إلى أن حامي الدين سبق أن حوكم من أجل التهمة نفسها، وأن الدستور والقانون حسما هذه الأمور، وأن حامي الدين كان ملفه من الملفات المدرجة ضمن هيئة الإنصاف والمصالحة، وأخذ تعويضا باعتباره ضحية». وتابع مضيان قائلا: «ما يهمنا جميعا هو أن ندافع عن سيادة القانون بدرجة أولى، وتكريس استقلالية السلطة القضائية، ويجب أن نعزز ذلك بالآليات اللوجيستيكية المختلفة، من أجل تحقيق هذه النتيجة في تجلياتها المختلفة»، مضيفا أن «هدفنا بدرجة أولى هو سيادة دولة الحق والقانون، وصيانة المكتسبات». ويلاحظ أن الموقف نفسه تبنّاه حزب التقدم والاشتراكية، الذي دعا إلى احترام استقلالية القضاء وقواعد المحاكمة العادلة. هكذا تحولت قضية حامي الدين إلى قضية رأي عام، دفعت الأحزاب السياسية إلى التحذير من أن يكون قرار قاضي التحقيق بفاس جاء نتيجة تأثيرات سياسية خارجية، وهي تحذيرات كافية لدفع الكثير من المتتبعين إلى القول إن «حامي الدين يتعرض لمحاكمة سياسية» على خلفية مواقفه الحقوقية تجاه التجاوزات وانتهاكات حقوق الإنسان في أكثر من ملف، على رأسها ملف الصحافي توفيق بوعشرين وملف حراك الريف.