من مفارقات الموت الرهيبة أنها تجعلك تتعرف على أشخاص ربما لن تسنح لك الفرصة أبدا لملاقاتهم أو حتى النظر في ملامحهم لو ظلوا على قيد الحياة. هذا ما حدث لي مع الراحل عبد الرحيم الحسناوي، الذي لم تتح لي فرص التعرف على ملامحه سوى بعد موته المفجع، فاكتشفت أنه من منطقة تافيلالت، وخمنت أنه بلا شك كان يعشق، مثلي، التملي طويلا في النخل المتعالي بسعفه الأخضر الفضي، وإن لم نكن نشترك على الأرجح نفس الأفكار ولا الانتماء. وربما لو كنا التقينا في مناسبة ما كنا سنتناقش، وقد يحتد الجدل بيننا حول الدين وأشياء أخرى، ولكننا كنا سننهي لقاءنا وسنغسل ما علق بنا من بقايا الجدل بالحديث عن النخل وقامته البهية، وقد يمتد بنا الكلام عن التمر وأنواعه، ثم قد نعرج عن سحر المنطقة وعن التهميش الذي تعاني منه. لكن كل هذا بات مستحيلا بسبب ضربة سيف.. نعم كل هذا بات مستحيلا لأن حياة هذا الشاب علقت في صراع بين فصيلين يدعى كل منهما أن ساحة الجامعة ضيقة لا تسعهما معا، وهي مبدئيا عكس ذلك تماما. كل هذا بات مستحيلا فقط، لأن هذين الفصيلين لا يؤمنان سوى بثنائية «الكل» أو «لا شيء» وهي الثنائية التي تدفع بشكل أتوماتيكي تقريبا إلى الأقاصي، حيث ينتفي أوكسجين التسامح، وحيث لا يكتفي المقيمون بالانتقال إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار، بل إلى «أقسى اليمين وأقسى اليسار» على حد قول المفكر عبدالسلام بنعبد العالي. لقد عرت هذه الفاجعة، وبغض النظر عن ملابساتها، مرة أخرى ذلك «التشوه» الذي نكتفي بتحاشي النظر إليه، داعين في أعماق أنفسنا أن نستيقظ يوما ونكتشف أنه اختفى.. هذا «التشوه»، هو جامعتنا التي تحولت إلى آلة لا تنتج إلا العنف بأشكاله المتنوعة: العطالة بدل النشاط، واليأس عوضا عن الأمل، والانغلاق على نفسها بدل الانفتاح الحقيقي على المجتمع وعلى العالم. بل وفوق هذا وذاك، صارت هذه الجامعة عقيمة في الوقت الذي كان يجب مبدئيا أن تكون المخصب الأول لحقل المعارف. وكل صباح نسترق خلسة نظرة سريعة لنكتشف أن هذا التشوه مازال في مكانه، بل ولا يكف عن التمدد والتوسع، فنسرع إلى إغلاق هذه النافذة، ونقول مع أنفسنا ما قاله الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي(ولكن في سياق مختلف تماما): «ما جدوى فتح النافذة مادامت تُفضي إلى باب مغلق». ونحاول أن ننشغل عن «وخزات» العجز بالانخراط في مضغ لا نهائي للكلام حول كل شيء ولا شيء، وفي التنديد والتنديد المضاد، وفي اجترار الماضي المؤلم للعنف بالجامعة المغربية. وقد نجمع ما تبقى لنا من شجاعة لنطرح بعض الأسئلة الحارقة على سبيل تبرئة الذمة: كيف علقت جامعتنا في مستنقع العنف هذا؟ من جعل من الطلاب مجرد قطيع أسير لأيديولوجيات، ربما، لا يدركون كنهها في الوقت الذي كان من المفروض أن تكون الجامعة المكون الكيميائي الذي يساعدهم على بلوغ مرتبة «الفرد»؟ ...