في ليلة باردة جاء الحكم على الصحافي توفيق بوعشرين بكل القسوة التي كان كثيرون يتوقعونها، لكن مع ذلك ظل هناك أمل في أن ينتصر القضاء للقانون وللوثائق ولأدلة البراءة التي قدمتها هيئة الدفاع. كان البعض منا يراوده الأمل في نزع فتيل محرقة جديدة ضد الصحافة وضد قلم بصم على حضور لافت في العشرية الأخيرة، قلم أهدى كثيرا من النصائح والملاحظات والاقتراحات بنفسٍ كله حُرقة على الوطن، وعلى مستقبله.. لكن إرادة النكوص “انتصرت” في جولة، لكنها بكل تأكيد لن تنتصر في النهاية لأن منطق التاريخ يفرض نفسه ودروسه تقول، بأن كل ليل يعقبه نور، ونحن في انتظار انبلاج ذلك النور ولو طال السفر… بعيدا عن الملف الذي صِيغ على عجل، وبعيدا عن مقتضيات القانون، كانت لتوفيق بوعشرين كثير من “الخطايا” التي لم تُغفر له؛ لكنها كانت ستكون مكلفة لو فتحت من أجلها ملفات واضحة، وهي الأصل في محاكمته بشهادة رجال القانون والسياسة وحقوق الإنسان والإعلاميين النزهاء. الخطيئة الأولى لبوعشرين، هي أنه نجح في وضع أسس مؤسسة إعلامية بعيدا عن مراكز النفوذ في الدولة، وبالقدر نفسه، بعيدا عن “رأسمال” هجين قائم على الريع ومنظومة متكاملة من الفساد في بيئة مصابة بعجز بنيوي في تمثل قيم السوق والمنافسة، ولأن الإعلام يمثل سلطة قائمة بذاتها، فإن الهامش كان ضيقا بشكل لا يمكن تجاوزه، فكان لا بد من تحجيم هذه التجربة حتى لا تتحول إلى نموذج، وما يحدث مع بوعشرين حدث مع آخرين قبله، لكن بطرق أقل بشاعة مما يحدث اليوم. الخطيئة الثانية لبوعشرين، هي أنه وفّر غطاءً إعلاميا لتجربة سياسية كانت تمثل أملا في إحداث تحول حقيقي في مسارات الإصلاح التي اختنقت منذ سنوات، وكان “الربيع العربي” فرصة لاستعادة المبادرة في بلد كان سباقا للتفاعل مع ما يجري في الخارج، إذ لا يجب أن ننسى أن تفاعل بلادنا مع انهيار جدار برلين والتحولات التي عرفها العالم، والزخم الذي عرفه المشهد السياسي والنقابي والحقوقي الوطني منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، كان له أثر بالغ في الحفاظ على شعلة الأمل في نجاح الإصلاح، وهو من الأسباب الخفية التي جعلت كثيرين في لحظة 20 فبراير لا يراهنون على الشارع فقط، وهو ما جعل لخطاب 9 مارس كل ذلك التأثير، لأن البلاد كانت لها تقاليد في تجاوز لحظات الأزمات الكبرى عبر مزيد من الإصلاحات، والتيار الإصلاحي بمختلف مرجعياته الإيديولوجية كان مؤمنا بإمكانية حصول ذلك التراكم الإيجابي. توفيق بوعشرين كان واحدا من الإصلاحيين، لكن الحزب الذي كان من مسؤوليته قيادة المواجهة انخدع بمقاعد السلطة ووهم الحكم، فكان مطلوبا من بوعشرين أن يمر إلى صندوق الحساب بعدما حمل الآخرون متاع السلطة وجاه “الحكم”… الخطيئة الثالثة لتوفيق كانت هي قلمه، الذي رفض القبول بهزيمة مشروع الإصلاح وتحول إلى جهاز صدمات يحاول رد الحياة لجسد عليل قُتلت فيه روح المواجهة والثبات على المبادئ. دور المسعف الذي حاول توفيق القيام به عبر افتتاحياته، كان خارج ما يمكن القبول به، فالرسالة كانت هي دع المحتضرين يواجهون موتهم ومصيرهم وهم باسمون (…)، لكن بوعشرين تجاهل الرسالة وأضحى كمحارب قديم يواجه طواحين الهواء… توفيق يقضي اليوم ليلته الثالثة بعد صدور الحكم بسجنه ل 12 سنة، وقبلها قدم مرافعة للتاريخ ليست غريبة عن ذكائه وصلابته وخلفيته الثقافية والفكرية، لكن بوعشرين قبل أن يكون صحافيا ويتحول بفعل المسؤولية الأخلاقية للمهنة إلى مناضل رغما عنه، فإنه إنسان ورب أسرة فُجعت في زوج وأب وأخ… المرارة التي يشعر بها توفيق بوعشرين اليوم، ليست ناتج تخل من بعض الأصدقاء وغدر آخرين، بل في اعتقادي أن أكبر ما يوجع في حالة بوعشرين، هو ما قاله المغدور جمال خاشقجي ذات مرة، أي ذلك الشعور بالمرارة أن تكون متابعا ومحاربا وأنت لا تقول سوى الحقيقة، وأنت في كامل حبك للدولة والوطن…