قال سعيد بنيس، الأستاذ الجامعي، إن تراجع الوساطة المدنية والسياسية جعل الملاعب مواقع للاحتجاج. كيف تقرأ ظاهرة الشعارات السياسية في الملاعب؟ يمكن قراءة ظاهرة الشعارات السياسية في الملاعب على أساس أنها تشكل تحولا مجتمعيان على اعتبار أن التنافس الرياضي في ملاعب كرة القدم أصبح «ذريعة» لخلق موقع جديد ونوعي للفاعلية (Agency) الاحتجاجية الشعبية. هذا التحول يسائل طبيعة ونوعية الاحتجاج الذي يظهر في الملاعب، وكيفية مقاربة هوية المحتجين الجدد (الإلتراس)، مع الأخذ بعين الاعتبار الدينامية السياسية في المغرب، والمحددات الاجتماعية والثقافية التي أدت إلى هذه الفاعلية الجديدة التي برزت داخل ملاعب كرة القدم، وفهم مضمونها في سياق المواطنة الافتراضية الجديدة. فالفرضية الأساسية للجواب عن هذا السؤال تقوم على أن الاحتجاج الشعبي لم يعد مرتبطا بموقع معين أو تراب محدد، وأن المطالب يعبَّر عنها عبر فاعلية تشاركية افتراضية تترجم في مواقع رياضية جرى تملكها وتصريفها فضاءات عمومية مؤدى عنها (ملعب كرة القدم). يمكن في هذا السياق مقاربة احتجاج الملاعب من زاوية «نظرية التفاعلية الرمزية»، لإرفين كوفمان، حيث يعمد الأفراد الفاعلون إلى تنظيم تفاعلاتهم مع المجتمع من خلال «مسرحية» توزع فيها أدوار بعينها تمكن من بناء المعنى الجماعي. ففي حالة الإلتراس في المغرب، تشكل تفاعلات المجموعات الافتراضية (مثل Raja de Casablanca, Groupo Angulo, Winners, Helala Boys, Siempre Paloma, Imazighen, Red Rebels,) أساس بناء المعنى الاحتجاجي، بالارتكاز على البيئة الثقافية والمعيشية للمتفاعلين، من خلال إبداع هاشتاغات ورسائل وأغانٍ وشعارات متفق عليها من لدن «المؤلفين» و«الكتاب»، وتوزع ويعبَّأ لها افتراضيا تحت مسؤولية وتأطير مسيري المجموعات («الأدمين»)، ويتلقاها مجموع منخرطي الإلتراس ل«تمثيلها» وتخريجها عملا مسرحيا لمفاجأة «الخصم المفترض»، وكذلك متنفسا للتعبير عن دراما واحتقان الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لذلك، يجري لعب الأدوار في احترام تام للآخر والبيئة المحيطة من خلال ميثاق أخلاقي متفق عليه («شجع فرقتك بلا ما تخسر هضرتك»، «شجع فرقتك ونقي بلاصتك»)، مع توارد بعض الاستثناءات، بالنظر إلى بعض المجموعات العنيفة التي تنحو إلى الشغب والتخريب (أحداث واد زم وتطوان وطنجة…)، وتتقمص هويات جارحة داخل الملعب وخارجه. ماذا تعكس كلمات الشعارات؟ يجدر التذكير بأنه في ما سبق كانت الشعارات السياسية التي تتداول داخل الملاعب الرياضية، في أغلبها، ذات صبغة سيميائية وهوياتية، من خلال التلويح ببعض الرموز، من قبيل العلم الفلسطيني أو الأمازيغي أو الباسكي، أو صور بعض الشخصيات الثورية (شي غيفارا)… أما بعد شهر مارس 2018، فقد صارت الشعارات خطابية ومغناة ومكتوبة، ومتضمنة منسوبا عاليا من الاحتجاج والمطالبة الاجتماعية والسياسية بتحسين أوضاع الشباب المغربي، تقع بلورتها وترجمتها داخل الفضاء الافتراضي. في ما يتعلق بتوصيف التعابير والكلمات الموظفة في الشعارات، يمكن الوقوف على نسق خطابي تمتزج فيه شعارات بصيغة الجمع، ويبرز فيها الانتماء الجماعي للإلتراس: «مابغيتونا نقراو، مابغيتونا نخدمو، مابغيتونا نوعاو»، «سكتونا بالفاليوم» «ومغنمشيوش لعسكر»، «الحرية لي بغينا يا ربي»، «جيناكم من للخر»، «فهاد لبلاد عايشين فغمامة»، «خلاونا كليتامى»… وشعارات بصيغة المفرد: «فبلادي ظلموني لمن نشكي حالي»، «الهدرة طلعت فراسي وغير فهموني»، «ما نلاشيش ما نلاشيش»، «جاي نكلاشي الحكومة». كلتا الصيغتين، سواء صيغة الجمع أو صيغة المفرد، تركزان على فردانية جماعية يتماهى فيها الفرد مع الجماعة، وتتماهي الجماعة فيها مع الفرد. فهذا التعبير الاحتجاجي الجديد يعكس التداخل بين الشعور بالانتماء إلى المجتمع المغربي، وسلوك الفاعلية والرغبة في الانخراط في الدينامية المجتمعية، والتأثير في السياسة العامة للبلاد، لذلك، تحيل الكلمات والتعابير والشعارات، في إطار التحدي الإيجابي Challenge))، على حقول دلالية ترافعية، من قبيل المظلومية والحكر:ة «الشعب مضيوم، الشعب محكور كيفكر فالبابور»، والممانعة «المعيشة أون فاير»… هل يمكن أن تنتقل حركة جمهور الملاعب إلى الشارع؟ الملاحظ أن الشعارات المتداولة لم تقتصر على جمهور أو إلتراس فريق معين، أو محصورة في مواقع بذاتها (ملاعب كرة القدم)، بل صار لها حضور وتداول خارج هذه المواقع، ويجري تملكها من لدن عدد من المواطنين لا علاقة لهم بالرياضة، ويعيدون تصريفها في مواقع مجتمعية أخرى، كالمعاهد الجامعية والأسواق… فالخصم لم يعد الفريق المقابل أو السياسة الرياضية أو الجامعة أو المدرب فلان، مثلا، بل السياسات الحكومية ومقرروها، والمواجهة تقع بجعل الرياضة جسرا للاحتجاج وتحقيق الفاعلية والانخراط في المجتمع. ففي السابق، كانت الجماهير الرياضية ترفع لافتات ضد المؤسسات الرياضية، واليوم أصبحت المضامين ذات الحقينة السياسية هي الطاغية في الشعارات داخل الملاعب. ومع تراجع الوساطة المدنية والسياسية، أضحت الملاعب تشكل تعويضا لمواقع الاحتجاج الكلاسيكية (أمام ساحات المؤسسات الحكومية أو في مدينتي الرباط والدار البيضاء…)، بل أصبحت مواقع تجري فيها التنشئة السياسية الفردية والجماعية وتقمص هويات «نضالية» ظرفية. وهذه التنشئة تستند إلى المطالبة والترافع عن مجموعة من القيم المادية، مثل الصحة والتشغيل والتعليم ومستوى المعيشة («الشعب مقهور والتعليم راجع اللور»، «الشعب مهموم»…) ولكنها تشمل أيضا نقدا مريرا وسخرية لاذعة للسياسات العمومية، مدعوما بعبقرية جماعية شبابية، ونشاط سياسي افتراضي (هاكتيفيزم)، («في القبة التكركير وفي المقرر البغرير»). وبالنظر إلى أن عدد المنخرطين في بعض مجموعات الإلتراس يفوق المليون منخرط، وهم كذلك في اتصال مستمر وتعبئة متواصلة عبر يقظة افتراضية وتفاعل جماعي، هل هذا الجمهور الافتراضي سينتقل إلى النسخة الواقعية، ويحتج في الفضاء الواقعي على اعتبار أن منسوب الوعي السياسي لدى الإلتراس قد يمكنها من التنظيم والتحرك خارج أسوار الملاعب الرياضية، لتصير المواجهة مباشرة مع السلطات والحكومة والدولة، كما وقع مع التلاميذ الرافضين للساعة الإضافية في عدد من المدن، إذ تحول التفاعل الافتراضي إلى فعل واقعي من خلال الوقفات الاحتجاجية أمام المؤسسات التعليمية، أم سيظل احتجاج الإلتراس حبيس أسوار الملاعب، ولن يتعداها إلى الشارع في مواجهة شعبية غير مباشرة، على شاكلة حملة المقاطعة.