ونحن نتتبع فصول فيلم الرعب المهيمن على الشاشات هذه الأيام، ونطالع كيف دخل الصحافي جمال خاشقجي إلى مقر القنصلية السعودية في اسطنبول، وانتهى به الأمر مقطّع الأوصال على يد مجموعة من الموظفين السعوديين؛ عدنا كمغاربة إلى ما قبل أكثر من نصف قرن، حين كانت شخصية مغربية لا تقل شهرة ومكانة اعتبارية، ضحية لمصير مماثل. وحتى من لم تسعفه ذاكرته، هناك في الصحف الفرنسية والأمريكية من سارع إلى تذكيره بقضية المهدي بنبركة، كما لو كان يقول لنا: انظروا إلى وجوهكم في المرآة، معشر «العرب»، لا فرق بين غربكم ومشرقكم. هناك بالفعل الكثير من عناصر التشابه بين عمليتي الاختطاف والاغتيال السياسيتين، رغم فارق الزمن والجغرافيا بينهما، كما لو كان المنفذون في باريس سنة 1965 وفي اسطنبول هذا العام، قد طالعوا الوصفة نفسها قبل المرور إلى التنفيذ. فجمال خاشقجي استُدرج إلى اسطنبول، بذريعة أن الوثائق الشخصية التي يتطلبها زواجه تستدعي انتقاله من أمريكا حيث يقيم إلى اسطنبول. والمهدي بنبركة أيضا استدرج إلى العاصمة الفرنسية باريس بذريعة وجود مشروع فيلم سينمائي كان عنوانه «باسطا»، يفترض أنه يتحدث عن حركات التحرير في العالم، ويراد منه أن يشارك فيه. جمال خاشقجي كان شخصية مرموقة تتمتع بالاحترام والتقدير، ولها صيت واسع، خاصة عندما برزت مقالاته وتصريحاته صوتا يغرد خارج سرب الرجل الذي يراد له أن يكون قويا في قصور آل سعود، ولي العهد محمد بن سلمان. والمهدي بنبركة، بدوره، كان شخصية عالمية يطوف أرجاء الأرض، ويُستقبل من لدن الرؤساء، بل إنه لحظة اختطافه كان في طريقه إلى عقد مؤتمر القارات الثلاث، الذي كان سيوحّد الدول النامية بكل من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، ما سيحوّله إلى رمز عالمي. الصحافي السعودي المغتال تعرّض، حسب سيل التسريبات والروايات المتواترة، للقتل بطريقة وحشية وغادرة، حيث جرى الحديث عن استعمال حقنة سمحت بالتحكم فيه قبل الشروع في تقطيع جسده دون أن تغادره الروح، حسب بعض الروايات، والمهدي بنبركة أيضا تتقاطع جل الروايات لتؤكد أنه قتل تحت التعذيب، ومصير جثمانه تفرّق بين احتمال تذويبه في الحمض أو تقطيعه ونقله إلى مكان مجهول، أو ربما دفنه في مكان قال تقرير أممي إنه ربما نفسه الذي بنيت فيه السفارة الأمريكية المنيعة بالرباط قبل بضع سنوات. خاشقجي دخل مقر القنصلية السعودية الذي قتل فيه عن طيب خاطر، لكنه كان رغم ذلك متوجسا ومحتاطا بشكل جعله يصطحب خطيبته كأنه يتأكد من وجود شاهد على دخوله إلى حتفه، والمهدي بنبركة أيضا كان رفقة طالب مغربي يقال إن اسمه «الأزموري»، وهو الشاهد الذي نقلت عنه الصحافة الفرنسية كيف أن المهدي فوجئ، وهو في قلب باريس، بعناصر من الشرطة الفرنسية تستوقفه وتطلب هويته، ثم تطب منه مرافقتها إلى وجهة مجهولة. عملية تصفية جمال خاشقجي تطلّبت انتقال عدد من موظفي الأجهزة الأمنية في بلده السعودية، ومعهم خبير في الطب الشرعي، إلى اسطنبول، وكذلك عملية اغتيال المهدي بنبركة تطلّبت أيضا انتقال عناصر، من بينها عميل يقال له المختار التونزي، وممرض يلقّب ب«الحسيني»، والواقعتان معا سجّلتا انتقال مسؤولين أمنيين بهوياتهم الحقيقية إلى مسرح الجريمة. فيلم الرعب الذي نتابعه هذه الأيام حول جمال خاشقجي يثير الكثير من الشكوك حول وجود تواطؤ خفي بين أجهزة استخباراتية عديدة في عملية الاستدراج والتصفية، بما فيها الأجهزة الأمريكية والتركية، التي فاجأت العالم بالكم الهائل من التفاصيل التي قامت بتسريبها؛ وعملية اغتيال بنبركة كانت أيضا، حسب أكثر من مصدر، موضوع تحالف دولي، أمريكي إسرائيلي فرنسي مغربي على الأقل. الرواية السعودية حول مقتل خاشقجي بسبب دخوله في «شجار» مع قاتليه، تفيد بأن الكومندو الأمني والطبي انتقل إلى اسطنبول بهدف إقناعه بعودة يقال إنها كانت تراود الصحافي المغتال إلى بلده. وفي قضية بنبركة أيضا يدفع مبرئو الحسن الثاني بفرضية وقوع الاغتيال في لحظة كان فيها هذا الأخير يمد يد الودّ إلى بنبركة. قد لا ننتهي من جرد أوجه التشابه ين الجريمتين، لكن عنصر اختلاف واحد يطل برأسه كلما حاولنا المرور من وجه إلى آخر، وهو عنصر الحقيقة. فبعد 53 عاما من الاختطاف، مازال ابن الراحل المهدي بنبركة يراسل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المزداد بعد 12 عاما من تاريخ اختفاء بنبركة، مطالبا إياه برفع السرية عن ملف أبيه وإظهار الحقيقة. الدولة التي انبعثت منها «أنوار» الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة، تتستّر على جريمة سياسية بشعة لا تهم أسرة بنبركة فقط، بل تهم المغاربة جميعا. ومن حسن حظ أسرة ومواطني خاشقجي -إن كان في المأساة مجال للحديث عن الحظ- أن «الدكتاتور» أردوغان، كما يحلو لبعض الفرنسيين وصفه، ورغم أن أمن جمهوريته لا يخرج عن دائرة الشكوك في وجود تواطؤ، حمل السعودية على الاعتراف بحدوث الجريمة في غضون أسبوعين، عبر تسريبات منسقة ومحكمة جعلت العالم كما لو أنه يتفرّج على شريط الجريمة. صادفت لحظة اختطاف واغتيال بنبركة وجود رئيس استثنائي على رأس الجمهورية الفرنسية، هو الجنرال وزعيم التحرير شارل دوغول، الذي شعر بالإهانة وجرح في كبريائه من جانب الحسن الثاني، ابن رفيقه في «التحرير» محمد الخامس. لكن أقصى ما فعله الجنرال كان اتهام وزير داخلية الحسن الثاني، محمد أوفقير، ومحاكمة مدير أمنه أحمد الدليمي دون إدانته، وبقي الملف في خانة الكبرياء، إلى أن رحل دوغول عن الحكم وعن الحياة نهاية الستينات، ثم عادت العلاقات المغربية الفرنسية إلى مصالحها.