قبل خمس سنوات، انحرف قطار عن سكته في مقاطعة «غاليسيا» بإسبانيا مخلّفا عشرات القتلى والجرحى، تماما مثلما حدث قبل يومين على الطريق الرابط بين سلا والقنيطرة عند بوقنادل، مخلفا بدوره عددا أقل من القتلى والمعطوبين. إليكم كيف تصرفت حكومة جارتنا الشمالية إزاء الحادث، وكيف تصرفت الحكومة المغربية؛ في إسبانيا، وخلال اليوم نفسه الذي وقع فيه الحادث، ألقى الملك خوان كارلوس خطابا قال فيه إن كل الإسبانيين يشعرون بألم أسر الضحايا، ثم زار المصابين في المستشفى. أما رئيس الحكومة، ماريانو راخوي، فقد زار مكان الحادث مباشرة لمواساة المصابين والتعبير عن الحزن والأسى، في حين أعلن وزير النقل استقالته من الحكومة، وأعلن القضاء الإسباني فتح تحقيق لمعرفة أسباب الحادث. وقدمت شركة النقل المالكة للقطار المنحرف اعتذارا رسميا إلى الشعب الإسباني، ثم قدّم مديرها العام استقالته، في حين أحيل المستخدمون الذين لهم علاقة بالحادث على التحقيق القضائي. وفوق ذلك، جرى إعلان حداد رسمي لمدة ثلاثة أيام، فيما استمر الحداد سبعة أيام في مقاطعة غاليسيا. وبعد يوم من الحادث، أعلنت الحكومة، في خطاب رسمي، تكفلها بعلاج المصابين، والتكفل برعاية أصحاب العاهات المستديمة، مع تخصيص راتب شهري لهم مدى الحياة، كما قررت تعويض عائلات الذين ماتوا، وتخصيص علاج نفسي لمن نجوا من الراكبين يُنسيهم مشاهد الموت والدم والأشلاء المتقطعة. وفي اليوم الثالث، أعلن القضاء نتائج التحقيق الأولي، مؤكدا أن انحراف القطار عن سكته حدث بسبب السرعة المفرطة. هل يمكن مقارنة ما قامت به حكومة إسبانيا بما قامت به حكومتنا؟ سيكون من الإجحاف فعل ذلك، وإذا لم تصدقوا، اسمعوا قصة ناج من الحادث اسمه خالد، مهندس مغربي يعيش في ألمانيا، وُجد قدرا في قطار بوقنادل، حكى قصّته لإذاعة خاصة: «في ألمانيا، لو توقف القطار فجأة لسبب ما، يُحال جميع الركاب على الطبيب النفسي، لكن لم تكن هناك أي مصاحبة نفسية إثر حادث بوقنادل. لقد أخرجونا من المقطورة دون أي مساعدة، ثم طلبوا مني المغادرة، لأنني سليم معافى لم يمسسني ضرر. قيل لي: معك تذكرة القطار ويمكنك التصريح بها». خالد أكد أن أغلب الركاب تعرضوا للسرقة، «سرقوا مني جواز السفر الألماني، هاتفي، نقودي، كل شيء. لو لم يأت الدرك الملكي لسرقوا منا الملابس التي كنا نرتديها». غادر خالد مكان الحادث وحيدا دون نقود، وتوجه إلى مصحة خاصة، «داخل المصحة تلقيت الإسعافات الضرورية، لم أستطع النوم بسبب رائحة الموت التي مازالت في أنفي، وحوالي الساعة الثالثة، اتصلت بالسفارة الألمانية في الرباط، الذين جاؤوا لزيارتي في المصحة، وحوالي الساعة ال11 ليلا جاؤوني بجواز سفر ألماني مؤقت وتذكرة طائرة في الدرجة الأولى للمغادرة باتجاه ألمانيا». كان خالد يذرف الدموع على المباشر لأنه تعرض للإهمال على يد السلطات، وتعرض للسرقة على يد اللصوص، ثم قال كلمته الأخيرة: «على الأقل، علموا هذا الشعب». كنت أتوقع أن يزور الملك أو رئيس الحكومة المصابين في المستشفى العسكري لمواساتهم، وأن يُلقى خطاب تقدم فيه التعازي، ويُعلن فيه التضامن مع عائلات الضحايا ومع المعطوبين وعائلاتهم، وأن يعوّض الضحايا، ويخصص راتب شهري لكل معطوب مدى الحياة. كنت أتوقع أيضا أن يستقيل مدير المكتب الوطني للسكك الحديدية، ويستقيل معه الوزير المكلف بالنقل، لكن لا شيء من ذلك وقع حتى الآن. لماذا لم يقع كل ذلك؟ لأسباب كثيرة، على رأسها أن الماسكين بالسلطة في هذا البلد لم يتعلموا بعد كيف يحترمون كرامة هذا الشعب، وربما يرون أننا شعب دون كرامة أصلا، ولا نستحق أن نعامل باحترام مثلما عاملت الحكومة الإسبانية شعبها يوم حادث «غاليسيا». إن انحراف قطار عن سكّته، وهو حادث يقع مثله في بلاد الدنيا كلها، إنما يكشف انحرافا أكبر، هو انحراف السلطة التي تحكمنا عن التعبير الحق عن إرادة شعبها وآماله في الكرامة الإنسانية، وذلك هو المصدر الرئيس لكل الآلام التي يعانيها هذا البلد.