منذ استقلال المغرب كان الجانب السياسي دائما حاضرا في الجدل حول اللغة والهوية. لكن الصراع حول هذه القضية، حسب المؤرخ المعطي منجب، لم يكن منطلقه مبدئي في منطق السلطة السياسية، بل كان رهين تحولات الأوضاع السياسية والتحديات التي تطرحها للنظام السياسي. فتارة يتم الاعتماد على التعريب، وتارة أخرى تتوجه السلطة نحو عملية التحديث بالانفتاح على الفرنسية، ثم وقع تحول نحو تعريب التعليم وحذف مقررات الفلسفة والسوسيولوجيا، وتشجيع الدراسات الإسلامية، ثم في مرحلة أخرى تم تشجيع ودعم الأمازيغية، وكل ذلك كان يتم استجابة للتحديات السياسية التي تطرحها مسألة اللغة. وفي الواقع، فإن الصراع السياسي الذي عرفه المغرب حول شكل النظام السياسي الذي ينبغي إرساؤه بعد خروج المستعمر، اتخذ أبعادا مختلفة، منها الجانب المتعلق بالتحديث والتقليد والانفتاح، واللغة والهوية. فقبل الاستقلال كان الصراع اللغوي ضد المستعمر بارزا، لهذا ركزت الحركة الوطنية على سياسة التعريب بخلق مدارس خاصة، تتبنى العربية لمواجهة مدارس الاستعمار التي تدرس بالفرنسية، وكان سلاح التعريب أساسيا في الحرب ضد المستعمر، وفي هذا السياق يؤكد المعطي منجب أن مختلف تلاوين الحركة الوطنية حينها “تبنت سياسة التعريب” في ذلك الوقت. لكن بعد الاستقلال، “كانت هناك إرادة للتحديث لأسباب موضوعية”، لأن أغلب الأطر المغربية حينها كانت مكونة بالفرنسية أو الإسبانية، والمدرسة العمومية اعتمدت التكوين بالعربية والفرنسية بشكل متساو.. ولهذا تخرجت أطر مغربية إما مفرنسة كليا، أو تتقن الفرنسية والعربية معا. وفي السياق نفسه، يلاحظ منجب أن حالة القائد المختفي المهدي بنبركة مثلا، تظهر كيف أنه يتقن العربية والفرنسية معا. أما بعض قادة الحركة الوطنية ممن لم يدرسوا بالفرنسية “فقد سعوا إلى تعلمها، مثل علال الفاسي، الذي تعلمها في المنفى”. ويسجل منجب أن المهدي بنبركة دافع عن التعريب التدريجي للتعليم، لكنه كان مع الجودة، وكان يقول “أفضل أستاذا فرنسيا كفؤا على أستاذ معرب غير كفؤ”، دون أن يعني ذلك أنه يفضل الفرنسية. هكذا استمر التكوين إلى أواسط الستينيات وأفرز نخبا مثقفة مفرنسة ذات تكوين عصري. لم يكن يتوفر المغرب سوى على 500 شاب حاصل على الباكلوريا عندما حصل على الاستقلال سنة 1956، ولهذا بعد بضع سنوات ظهرت هذه النخبة المثقفة وتبين أن معظمها انضم إلى اليسار، كما أن مجموعة مهمة منها امتهنت التدريس، لأنها كانت ضد العمل في مؤسسات سيادية لنظام تعارضه مثل وزارة الداخلية أو الخارجية أو العدل. هذه النخبة ذات التكوين الحداثي، يقول منجب، “أخافت الحسن الثاني”، لأنها عارضته، “فقرر العودة إلى النمط التقليدي المحافظ”، عبر إعلان تعريب التعليم، والقضاء على مواد الفلسفة والسوسيلوجيا، ووصل به الأمر في أحد خطبه أن “اعتبر أن ظاهرة لباس الميني جيب، غير سليمة ولا تتماشى مع التقاليد”، وحتى الإعلام المقرب من السلطة بما فيه المفرنس بدأ يدعو إلى التوجه المحافظ. هذا، ويذكر منجب أن أحمد العلوي مدير “لوماتان” كتب مرة افتتاحية اعتبر فيها أن “العلوم الاجتماعية لا تكوّن سوى المشاغبين والجهلة”. ضمن هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ما أورده حسن أوريد، في كتابه: “الإسلام السياسي في الميزان”، من قصة رواها محمد شفيق، الذي عينه الحسن الثاني خبيرا في الديوان الملكي سنة 1968، في سياق اتسم بالأحداث التي عرفتها فرنسا، حيث ثار الطلبة ضد الجنرال دوغول، حيث كلفه الراحل بصفته مفتشا للتربية الوطنية، بإعداد تقرير تقني عن القيمة البيداغوجية لتعليم القرآن في الكتاتيب القرآنية. وأنهى شفيق تقريره بخلاصة مفادها أن “التعليم في الكتاتيب القرآنية هو أساس تخلفنا الحضاري”، فاندهش المدير العام للديوان الملكي إدريس المحمدي وسأله إن كان يريد تقديم التقرير للملك بذات الخلاصة، فوافق. وبعد أسبوع، يقول شفيق، “نادى عليّ السيد المحمدي، وحينما غشيت مكتبه لج في الضحك وأخبرني أن جلالة الملك يأمرني أن أحرر مذكرة إلى وزير التربية الوطنية أطلب منه تعميم تدريس الكتاتيب القرآنية في كافة ربوع التراب الوطني”. إذن، مشكل الهوية المغربية والتعليم طرحت دائما لأسباب سياسية، ولهذا تم في 1972 إغلاق معهد السوسيولوجيا، الذي كان من أبرز رواده بول باسكون، وحذفت مادة الفلسفة والسوسيلوجيا من جامعتي فاس والرباط، وتم تعويضها بالدراسات الإسلامية. لكن حدثت تطورات فيما بعد، لأنه بعد 20 عاما تبين أن سياسة التعريب ونشر تعليم الدراسات الإسلامية صب في صالح الإسلاميين، يقول المعطي منجب “تبين في سنة 2000 أن نصف أطروحات الدكتوراه كانت في شعبة الدراسات الإسلامية”. عندها ظهرت الأمازيغية، فلجأت السلطة بعد التأكد بأنها ليست خطرا إلى تشجيعها وصرح الحسن الثاني أنه يفضل ألا يخلط المغربي بين اللهجات واللغة العربية، على أن يخلطها باللغات الأجنبية. من جهة أخرى، ورغم الصراع اللغوي، بقيت اللغة الفرنسية مهيمنة على الإدارة والمؤسسات وفي الاقتصاد، ولم تستطع الدولة تنفيذ قرار تعريب الإدارة والاقتصاد، ما جعل النخب المفرنسة أكثر حظا من المعربة في الولوج إلى الوظائف العليا، وتحول ذلك إلى صراع بين توجه قومي إسلامي يتبنى التعريب ويدافع عنه، وتوجه علماني مفرنس ضد التعريب. ولهذا، فإن الصراع رغم أنه يبدو فكريا وإيديولوجيا إلا أنه في عمقه سياسي. دعاة الفرنسة يعتبرون العربية لغة غير قادرة على مسايرة التطور، وهم بذلك لا ينظرون إلى العربية كمكون أساسي في الشخصية المغربية، بل يركزون على الدارجة واللهجات. في حين يرى عبدالسلام بلاجي، الجامعي والبرلماني السابق من البيجيدي، بأن الجانب السياسي في هذا الصراع مرتبط بالجانب الفكري لأن “هناك من يدافع من منطق إيديولوجي فكري، وهناك من يطرح الموضوع من جانب سياسي، في حين أن هناك تداخلا بينهما”، ثم إن “الجانب الفكري عند من يعادون العربية مرتبط بفكر استعماري علماني له موقف من مقومات الهوية المغربية بصفة خاصة، والإسلامية بصفة عامة”. هؤلاء يعتقدون أن هذه الهوية تقف حجر عثرة في وجه مصالحهم”. لكن، لماذا يطفو الجدل بين الفينة والأخرى، حول هذا الموضوع؟ عن هذا السؤال يجيب بلاجي: “لأن صراع أبدي تاريخي وهذا جانب ثابت، أما الجانب المتحول، فهو يتصل بمحاولات اختبار صمود الخصم وقابليته للتنازل وتحين الفرصة للإجهاز عليه”.