تضمن التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات مذكرات استعجالية تكشف النقاب، بشكل ملموس، عن ممارسات تنطوي على تجاوزات خطيرة، مثل المذكرة الاستعجالة الخاصة بالنفقات العمومية بواسطة سندات الطلب، والتي ظلت تحجب حقلا كبيرا من الفساد المالي الذي تتعايش معه الكثير من المقاولات الصغيرة والمتوسطة. كما وضع المجلس الأعلى للحسابات الأصبع على إحدى الطرق الجديدة لنهب المال العام، وتتمثل في تلاعبات بعض المراكز الخاصة لتصفية الدم، والتي تقدم فواتير ومحاضر غير دقيقة لوزارة الصحة بهدف الحصول على تعويضات كبيرة. رغم الطابع الناعم الذي باتت تتخذه تقارير المجلس الأعلى للحسابات منذ مجيء إدريس جطو خلفا لأحمد الميداوي رئيسا أول له، ورغم انخفاض منسوب الشفافية والوضوح في هذه التقارير، بشكل أصبح يحجب أسماء المسؤولين العموميين والهيئات المعنية بالتجاوزات والخروقات، فإن التقرير السنوي الأخير، الذي قدمه جطو للملك عشية عيد العرش الماضي، تضمن فصولا جديدة من الممارسات الفاسدة التي تؤدي إلى هدر المال العام وتبديده، وربما اختلاسه. وإلى جانب الاختلالات التدبيرية اللامحدودة التي تقف عندها تقارير المجلس، والتي يسارع البعض للاستجابة لها، أو الرد عليها، ما يجعلها تبدو مجرد ملاحظات تقنية تفتقر إلى المعرفة الدقيقة بمجالات التدبير المختلفة؛ تضمن التقرير الأخير مذكرات استعجالية تكشف النقاب بشكل ملموس عن ممارسات تنطوي على تجاوزات خطيرة، مثل المذكرة الاستعجالة الخاصة بالنفقات العمومية بواسطة سندات الطلب، والتي ظلت تحجب حقلا كبيرا من الفساد المالي الذي تتعايش معه الكثير من المقاولات الصغيرة والمتوسطة. المجلس قال إنه وبرسم سنتي 2016 و2017، اللتين يشملهما التقرير السنوي الأخير، أحيلت 8 قضايا ذات طبيعة جنائية على النيابة العامة للمجلس، من بينها 6 حالات أحالها عليها وكلاء الملك لدى المجالس الجهوية للحسابات، وذلك في العام 2016. أما السنة الموالية، فشهدت تلقي النيابة العامة التابعة للمجلس 6 ملفات جديدة من وكلاء الملك لدى المجالس الجهوية. وفي الوقت الذي كانت النيابة العامة تحت وصاية وزير العدل خلال الفترة التي يشملها التقرير الأخير للمجلس، أوضح هذا الأخير أنه أحال على الوزير 4 قضايا جنائية خلال السنتين الماضيتين، أحالها الوزير بدوره على النيابات العامة لمحاكم الاستئناف المختصة. واحدة من أبرز المذكرات الاستعجالية التي ضمّنها إدريس جطو تقريره السنوي الجديد، تلك المتعلقة بتنفيذ النفقات العمومية بواسطة سندات الطلب، حيث جرى الوقوف على مجموعة من النقائص التي تطال مسطرة تنفيذ النفقات العمومية بهذه الطريقة، «سواء ما يخص انتقاء المتنافسين أو التنفيذ». أولى هذه الاختلالات تخص انتقاء المتنافسين، حيث لاحظ المجلس عدم إعمال منافسة حقيقية، «إذ إنه بمعظم الإدارات العمومية التي خضعت للتدقيق، يكلف المقاول أو المورد نفسه (المتعاقد معه) بتقديم «بيانات أثمان مجاملة» صادرة، في الظاهر، عن متنافسين آخرين. ويرجع سبب عدم إعمال المنافسة بشكل حقيقي إلى غياب أو ضعف نظام المراقبة الداخلية بشأن مسطرة تنفيذ النفقات بواسطة سندات الطلب». المذكرة تضيف أن المجلس لاحظ غياب لجنة تعهد إليها عملية الانتقاء واختيار المتنافسين، والسهر على مراقبة صحة الاستلام، ومطابقة الخدمات أو المقتنيات للمواصفات التقنية والكميات المتعاقد بشأنها. «كما لوحظ أن اللجوء إلى المنافسة، في إطار مسطرة تنفيذ النفقات بواسطة سندات الطلب، لا يكون دائما وفق الشروط والشكليات المطلوبة، والتي من شأنها أن تضمن للإدارة إمكانية الحصول على الجودة المرجوة وبالكلفة المناسبة. فالإدلاء ببيانات أثمان مضادة، في إطار مسطرة سندات الطلب، لا يعدو، في أغلب الحالات، أن يكون مجرد إجراء شكلي لا يتحقق معه تكافؤ الفرص ولا المنافسة المنشودة، إذ لوحظ، من خلال عمليات التدقيق، أن الطلبيات العمومية تقتصر على فئة محدودة من الموردين أو المقاولين، ما يترتب عليه حصول نتائج سلبية في الجودة والاقتصاد». جطو قال في مذكرته إن مجلسه لاحظ أن معظم المصالح الآمرة بالصرف لا تصدر سندات الطلب إلا بعد إنجاز الخدمة موضوع الطلبية، أو من أجل تسوية نفقة كان مبلغها الأصلي يتجاوز الحد الأقصى المسموح به قانونا. ثاني أبرز الاختلالات، يتعلق بالبنود التعاقدية لسندات الطلب، حيث سجل المجلس، في هذا الباب، غياب آلية تضمن الصرامة في ضبط وتحديد الشروط الشكلية والجوهرية لبنود وبيانات سندات الطلب المتعاقد بموجبها، كتحديد آجال تسليم المقتنيات، أو تنفيذ الخدمات، بالإضافة إلى غياب آلية للتأكد من أن البنود والبيانات المضمنة بسندات الطلب تعكس فعلا المقاييس والمواصفات التي تكون الإدارة قد وضعتها لتلبية حاجياتها، وأن هذه السندات توفر كافة الضمانات لحفظ وحماية حقوق ومصالح الجهاز العمومي المعني في حال إخلال الأطراف الأخرى بالتزاماتها التعاقدية والقانونية. ثالث أبرز الاختلالات يتعلق بممارسة شائعة، تتمثل في تجزيء النفقات لتنفيذها بواسطة سندات الطلب. فقد ثبت للمجلس تواتر ممارسة وصفتها المذكرة بغير المشروعة، تتمثل في تشطير النفقات على مراحل من أجل تفادي تنفيذها في هذا الباب، «عن طريق طلبات عروض، وإخضاعها لمسطرة سندات الطلب، حتى وإن لم تجتمع الشروط التي تسمح باللجوء إلى هذه المسطرة، والمتمثلة أساسا في وجود ضرورة ملحة لتلبية حاجيات آنية وضرورية وذات طبيعة خاصة لا تتحمل آجال مساطر طلبات العروض، على ألا يتجاوز مبلغ النفقة موضوع سند الطلب 200 ألف درهم، حدا أقصى». ويؤكد المجلس أن الممارسات المذكورة آنفا تشكل انحرافا عن الضوابط القانونية الجاري بها العمل في مجال الصفقات العمومية، «كما أنها تنطوي على مخاطر أخرى تتمثل في إمكانية نشوء أفعال يجرمها القانون، إضافة إلى أنها تمس بمبادئ الشفافية والمنافسة والمساواة في الحصول على الطلبيات العمومية. وللحؤول دون وقوع أو تكرار أو تفاقم هذه الممارسات في مختلف المصالح العمومية، يتعين إعادة النظر في نمط تنفيذ النفقات بواسطة سندات الطلب بإعمال منافسة حقيقية، ووضع نظام فعال للمراقبة الداخلية من شأنه الحد من الممارسات المذكورة، وسد الثغرات التي تطال سلامة عمليات تنفيذ النفقات بواسطة سندات الطلب». مقترحات المجلس لإخراج سندات الطلب من «السيبة» – الحرص على تحقق قواعد المنافسة لضمان سلامة العمليات المنجزة بواسطة سندات الطلب، وذلك بتجاوز التفسير الضيق للمقتضى التنظيمي الوارد بهذا الخصوص، والذي يجب ألا يفهم منه أن إعمال المنافسة مجرد إمكانية، وأنها ليست شرطا لازما في مجال الطلبيات العمومية؛ – العمل على تحقيق المزيد من الصرامة والشفافية في تحديد البنود التعاقدية المتعلقة بالآجال والكميات والجودة، وذلك من أجل حماية مصالح الإدارة تجاه الأطراف المتعاقد معها؛ إحداث لجنة يعهد إليها بالسهر على عملية الانتقاء والإشهاد على تسليم الخدمات أو التوريدات وفق المواصفات والجودة والكميات المطلوبة؛ - وضع بنك للأثمان يحيَّن بشكل دوري، بحيث يمكن للإدارة، في كل مرة، أن تعود إليه من أجل إجراء المقارنة اللازمة بين الأثمان المقترحة وتلك المتداولة، وذلك قصد التحقق من أن الأثمنة المقترحة من لدن المتنافسين مناسبة وجدية. 6 تصفية الدم سبيل جديد لنهب المال العام وضع المجلس الأعلى للحسابات الأصبع على واحدة من الطرق الجديدة لنهب المال العام، وتتمثل في تلاعبات بعض المراكز الخاصة بتصفية الدم، والتي تقدم فواتير ومحاضر غير دقيقة لوزارة الصحة بهدف الحصول على تعويضات كبيرة. المذكرة تقول إن المجلس وقف على عدم إعمال منافسة حقيقية في ما يتعلق بتفويت الصفقات الخاصة بإقامة مراكز لتصفية الدم متعاقدة مع وزارة الصحة، «ذلك أنه في كل سنة تتعاقد بعض مندوبيات وزارة الصحة عن طريق طلبات عروض مفتوحة لا يشارك فيها إلا متنافس وحيد يتمثل، في تجمع بالتضامن مكون من عدة مراكز لتصفية الدم، يعين وكيلا عنه من بين أحد هذه المراكز». نمط التعاقد هذا يتسم، حسب المجلس، بكونه ينطوي على عدة مخاطر، سواء في ما يخص الثمن أو الجودة. بعد مرحلة إبرام الصفقات، وقف المجلس على عدم مراقبة وزارة الصحة القوائم الشهرية التي يعدها صاحب الصفقة بخصوص المرضى المستفيدين من تصفية الدم، وعدم قيام صاحب الصفقة بإخبار المندوبية بشكل أسبوعي ومستمر عن كل حالة غياب للمرضى، مستغلا في ذلك غياب المراقبة والتتبع، مع استمراره في تسجيل وفوترة الحصص غير المنجزة بسبب تخلف المريض عن الحضور أو وفاته أو تغيير مقر إقامته، فضلا عن فوترة حصص وهمية بتواريخ تصادف أيام الآحاد والأعياد». المجلس سجل أيضا عدم تعيين مندوبيات وزارة الصحة موظفين يعهد إليهم بتتبع مراكز تصفية الدم، ومراقبة جداول المرضى وتحرير محاضر بهذا الخصوص، كما تنص على ذلك مقتضيات الصفقة، إضافة إلى غياب محاضر بشأن مراقبة مراكز تصفية الدم، خصوصا في ما يتعلق بالأدوية والإجراءات والاحتياطات الواجب اتخاذها في مجال تعقيم الآلات والمعدات المستعملة في هذه العملية، وذلك من أجل تفادي انتقال الأمراض المعدية المنقولة عن طريق الحقن. مذكرة جطو تسجل أيضا عدم إخضاع التقارير المعدة من طرف صاحب الصفقة، كل شهرين، لأي مراقبة من لدن المندوبيات، علما أن الفوترة تكون على أساس هذه التقارير. وتخلص الوثيقة إلى غياب الوضوح والدقة في ما يخص طريقة الفوترة والأداء، وعدم تحديد آليات لمراقبة وتتبع الخدمات المفوترة من طرف صاحب الصفقة، حيث يكون الأداء فقط على أساس الفواتير المقدمة من طرف صاحب الصفقة دون التحقق من الخدمات المنجزة فعليا، وذلك لغياب المحاضر الدورية للتتبع والمراقبة. وزارة الصحة لم تكن تلزم المتعاقد معه بإنجاز تقرير خاص عن كل مريض عند نهاية الصفقة، كما هو محدد في العقد. بهذا الوضع، تقول المذكرة إن المندوبيات الإقليمية تفوت على نفسها إمكانية الاستفادة من أثمان تنافسية وجودة في الخدمات المقدمة، كما تتيح للمراكز المتعاقد معها إمكانية الاستفادة، دون وجه حق، من أموال عمومية بمبالغ مهمة، نظرا إلى غياب ما يقابلها من خدمات. «ويجب التذكير، في هذا السياق، بأن مدونة المحاكم المالية تسمح للمجلس بتحريك المتابعات القضائية، سواء بالإحالة على إحدى غرفه، أو على النيابات العامة لدى المحاكم المختصة، وذلك متى توافرت العناصر المكونة للمخالفات المالية أو للجرائم المالية حسب الحالة»، تقول المذكرة متوعدة. وزير الصحة السابق، الحسين الوردي، ردّ على هذه الملاحظات، بالقول إنه عقد اجتماعا فوريا في الإدارة المركزية، يوم 24 أكتوبر 2016، لتصحيح الاختلالات المسجلة وتفادي تكرارها. وأضاف الوردي أنه عمم دورية على كل المتدخلين في تسيير صفقات تصفية الدم لفائدة مرضى القصور الكلوي، من أجل تنبيههم إلى الاختلالات التي سجلها المجلس الأعلى للحسابات، وحثهم على اتخاذ الإجراءات التصحيحية اللازمة، والتنفيذ الأمثل للصفقات المبرمة مع القطاع الخاص في هذا المجال.