"سأرفض بعد اليوم أن أسمع أحدا يقول لي إن بنسالم حميش والأشعري ونور الدين أفاية ومحمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي،، وحتى العروي مثقفون، لأن المثقف كما يقول جيل دولوز، وتعتبر مقولته مرجعا بؤريا في تحديد "المثقف"، هو الذي ينزل إلى الحدث، وهو ما مارسه بيير بورديو، وأي حدث جلل يستفز المثقف (لو وجد) أكبر مما يشهده الريف، ومعه عديد سهول وهضاب ونجود القهر والحرمان، نحن شعب يتيم، يتيم وظيفة رفيعة شديدة التأثير، هي وظيفة المثقف، نتيجة ضراوة الاغتيال الرمزي للمثقف الحقيقي من جهة، والنجمنة المقيتة للأشباه من جهة أخرى،" هي كلمات قاسية في حق بعض ممن لا أنكر شخصيا تلمذتي مباشرة عنهم، أو عبر مؤلفاتهم، ومساهماتهم في النقاش العمومي، كلمات لم يكتبها مناضل عدمي، أو كويتب من الكتبنجية الجدد، بل هي صرخة أطلقها عاشق للسوسيولوجيا وأدوارها، اسمه: الحسين بوكبير.. لعلكم لم تسمعوا بهذا الاسم من قبل، وقد تستغربون إذا علمتم أنه صاحب مقهى بحي شعبي بالصويرة،، وقد تتساءلون: كيف ل"قهوجي" أن يتطاول على قامات فكرية وهامات فلسفية؟ الحسين بوكبير من القلة التي ما زالت تلتهم الكتب التهاما، ولم يصب لا بتخمتها، ولا بعسر هضمها لحد الآن، لذلك حول مقهاه إلى وزارة ثقافة في حي شعبي مهمل منسي في الخطاطة الثقافية الرسمية. في مقهى الصويرة يمكنك أن تقضي يومك كله دون أي إحساس بالملل،، فهو يضم أكثر من ألف كتاب موضوع رهن إشارة الزبناء، وطاولة بيلياردو في زاوية أخرى، ورقع شطرنج لعاشقي الرياضة الذهنية، كما يمكنك التملي بمشاهدة قطع تذكارية من دول وثقافات مختلفة خصوصا الأمريكو لاتينية والإفريقية، وصور من ماضي الصويرة في حقبتها الكولونيالية و"الهيبية "لاحقا، ولوحات تشكيلية، وبورتريهات لعظماء أثروا في مسرى التاريخ البشري (غاندي، ماركس، غيفارا، الخطابي)، في المقهى ملصقات بأقوال لمفكرين وفلاسفة كبار، المقهى باختصار متحف للتحرر والالتزام بمعناه التقدمي. يقاوم الحسين بوكبير الرداءة بطريقته الخاصة، يضع مقهاه في خدمة أساتذة متطوعين لتقديم دروس دعم مجانية للتلاميذ المعوزين، يحتضن حفلات لتوقيع الكتب، يحول المقهى أحيانا لقاعة سينما تعرض أفلاما وثائقية أو سينمائية في حدود إمكانيات العرض المتواضعة التي قد تسمح بها المقهى، لكنه يضمن لك فرجة باذخة، حين يفتح نقاش بعد انتهاء العروض، نقاشات بطعم السياسة والفلسفة والجماليات، مقهى الصويرة كذلك هي استوديو مفتوح لتدريب الأذن على الموسيقى، استوديو للسفر انطلاقا من الوجع الكامن في البلوز، نحو القدرة المدهشة للأمريكو لاتينيين على اجتراح الفرح، مرورا بغضب الأغنية الملتزمة والاحتفالية الكناوية، وصولا للهدوء الصوفي.. لا يوجد هناك شيئ منذور للصدفة… وحين يكون مزاج السلطة رائقا و"متسامحا" يقيم الحسين لرواد مقهاه أمسية فنية تعود بك للزمن الطلابي الثمانيني بميسمه الأوطامي.. في حي شعبي بالصويرة، يقدم الحسين درسا للأحزاب والجمعيات والمثقفين والراديكاليين في معنى الالتزام، يفتح شباب حيه القريب منه مجاليا على ممكنات الدهشة والمعرفة والفهم،، ويعود بنا نحن مجايليه لزمن الحلم واليوتوبيات التي كانت تحفزنا على الممانعة، ففي كل ركن من المقهى آثار لصرخة فرانز فانون :"يا معذبي الأرض، اتحدوا.."، وللموت التراجيدي لغيفارا، ولنظارات غاندي الذي رأى العالم من عين المقاومة اللاعنفية، وفي المقهى طبعا صورة لمولاي امحند بنعبد الكريم الخطابي، كانت قبل حراك الريف، وما زالت هناك عنوانا على الوفاء للذاكرة. خلفية الحسين الفكرية خلفية سوسيولوجية، وقد درسها في زمنها الجميل، أيام كان المرحوم محمد جسوس يحذر من مستقبل جيل للضباع قادم، وبعد أن أنهى دراساته العليا، عاد الحسين لمدينته "المجذوبة"، وأقام جامعته الخاصة بدون ضجيج، يقدم يوميا دروسا في فلسفة الحياة والجمال والمقاومة، ظل قلبه كما دائما يخفق جهة اليسار،، لكنه اليسار الذي ينقصنا، في فورة المنتديات الاجتماعية مطلع الألفية الثالثة، تحولت عبارة "ممكن" لدليل انتماء لهذا الأفق الذي فتحة ميثاق بورتو أليغري، فتناسلت شعارات: عالم آخر ممكن، مغرب آخر ممكن، يسار آخر ممكن، وحده الحسين كان متواضعا،وقال: مقهى آخر ممكن، وكان عند الوعد.