رغم أن نجم الدين أربكان، الذي واصل ممارسة دوره السياسي في الكواليس رغم قرار المنع الصادر في حقه، أسس بعد حل حزب الفضيلة حزبا جديدا، سماه حزب السعادة، إلا أن الجيل الشاب الذي انشق عنه وذهب ليؤسس مشروعه السياسي الجديد، في حزب العدالة والتنمية، بدا كما لو أنه سحب البساط من تحت أقدام الشيوخ، وجرّ معه القسم الأكبر من الكتلة الناخبة ذات الحساسية الإسلامية. فتمكّن رجب طيب أردوغان، زعيم الحزب الجديد، من تشكيل الحكومة في العام 2002 دون حاجة إلى ائتلافات. ورغم ما في الخطوة من قطيعة، إلا أن جيل أردوغان الشاب، استفاد من ماضي التيار الإسلامي التركي، الذي لم يثبت نهائيا أنه لجأ إلى العنف، أو تخلى عن القواعد الديمقراطية والقانونية في التدافع السياسي. جمع حزب أردوغان الجديد بين فئات وتيارات عديدة كانت بحاجة إلى من يقودها، من أنصار الانضمام إلى أوربا، وأصحاب الحنين للماضي الشرقي لتركيا، والناقمين على التدخلات المتعاظمة للجيش والمتطرفين العلمانيين، ورجال أعمال متلهفين لدخول العولمة والانفتاح على العالم، والبورجوازية الصغيرة والفقراء المهمشين… وهو تنوع أفضى إلى العثور على الوصفة السحرية للنجاح الانتخابي. فيما يرى البعض الآخر في ذلك ضعفا في التجانس الداخلي للحزب، حيث لا يناهض الحزب العولمة ولا يواجه المؤسسة العلمانية التركية بقوة ويساند خيار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى والاستجابة إلى شروط الاقتصاد العالمى… لكن السلاح الفتاك الذي حمله أردوغان وأتباعه في مواجهة دولة قوية، هو السياق الدولي الجديد لما بعد مرحلة القطبين، والمتسمة بسيادة الهاجس الحقوقي على الهواجس الإيديولوجية الضيقة، فأصبحت الحريات الفردية والجماعية، أداة لتفكيك البنية المنغلقة للدولة التركية، وريثة الأتاتوركية المتشددة. هذا التوجه الحقوقي لم يكن ممكنا لولا انفتاح أردوغان وحزبه الإسلامي العلماني المعتدل، على القوى الغربية سياسيا واقتصاديا وعسكريا، من خلال مواصلة مسار انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، وتعزيز مكانتها في حلف شمال الأطلسي، وانفتاحها الكبير على السوق العالمية. لكن أحد أسرار نجاحات أردوغان في الحكم والسياسة، تتجلى في جمعه بين هذا الانفتاح غربا، والتوجه شرقا نحو عالم عربي إسلامي جريح ومنقسم، فاتخذ من القضية الفلسطينية مدخلا، ومن قلوب العرب عشا لنمو شعبية وجماهيرية لا تتوقفان عند الحدود الجغرافية لشبه جزيرة الأناضول. "قد يكون من الطبيعي التساؤل عن إمكان استمرار وتواصل هذا المشروع الجديد، الذي بدأه مندريس واستأنفه ديميريل ثم تورغت أزال، ووصل إلى أوجه مع أربكان، أي مشروع مصالحة تركيا الحديثة مع تاريخها وهويتها، من خلال الحد من التطرف العلماني للدولة في عدائها للدين، في مسعى لاستبدال علمانية متطرفة بأخرى معتدلة، هي أقرب إلى النوع الأوروبي، الذي يغلب عليه الحياد، إزاء المسألة الدينية، وذلك بالإفادة من التجارب السابقة، باعتماد مرونة أكبر في خدمة المشروع نفسه، بما يحفظ جوهره، ويتخلى ولو ظرفياً عن بعض مظاهره، من أجل فتح أبواب التطور في وجهه بعيداً عن أسباب التصادم مع "الباب العالي""، يقول شيخ الإسلاميين التونسيين، راشد الغنوشي، مقدما لرصد عام لسياق تأسيس حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة أردوغان. مصدر التساؤل يكمن من بعض ملامح القطيعة التي حملها مشروع أردوغان ورفاقه، من خلال طريقة تأسيسهم للحزب الجديد. فقد شهدت الأيام الأولى لحزب "السعادة" الذي أسسه الشيخ نجم الدين أربكان، من وراء الستار لأنه ممنوع من ممارسة السياسة؛ شدا للحبل بين الجيل القديم والجيل الجديد. وقدّمت مجموعة أردوغان وغول، مشروعا إصلاحيا شاملا، يرمي إلى تجنب الاصطدام مع معاقل العلمانية والجيش، وتقديم بعض التنازلات والمراجعات لوضع نهاية لأكثر من نصف عقد من التوتر بين الإسلاميين والماسكين بزمام السلطة في تركيا. غير أن أصدقاء أردوغان فشلوا في الفوز بزعامة حزب "السعادة"، لتُعلن بذلك القطيعة، ويبدأ القياديون الشباب في مسار تأسيس حزب جديد، معززين صفوفهم بغالبية برلمانيي الحزب.