نجيب أقصبي: خبير اقتصادي الاقتصاد المغربي مازال، حسب الخبير الاقتصادي، نجيب أقصبي يدور في الدوامة نفسها، التي كان عليها منذ سنين طويلة. أقصبي شدد في هذا الحوار على أن توجهات البلاد مازالت حبيسة غرف مغلقة في عهد الملك محمد السادس، وأن المشاريع الكبرى المؤسسة للنموذج التنموي الفاشل لم تناقش بشكل ديمقراطي، ويبقى مشكل المغرب الحقيقي، هو عدم البحث في أسباب السقوط، وعدم الخجل في تكرار التجارب الفاشلة نفسها سابقا.
الجميع يتحدث عن فشل النموذج التنموي، ما هي حقا أسباب فشل هذا المشروع؟ دعني أشير أولا، إلى أن الاختيارات الرئيسة والجوهرية، التي يتأسس عليها هذا النموذج، لم تتغير بين عهد الحسن الثاني وخلفه محمد السادس، اختيارات هذا التوجه يمكن أن نسميها اختيارات خمسينية تعود لمطلع ستينيات القرن الماضي. هذا النموذج يرتكز، أساسا، على قاعدتين وهما أولا، بناء اقتصاد السوق، بما يعنيه من تعزيز منافسة وتعدد وحرية مع قطاع خاص، يكون فاعلا رئيسا في التنمية، ليكون هذا الأخير المستثمر الأول في البلاد ويوزع المداخيل ويخلق فرص الشغل. أما الأساس الثاني، فهو رهان على الاندماج التام للاقتصاد الوطني في المنظومة الاقتصادية العالمية، أي بجعل المغرب بلدا مصدرا، لتكون قاطرة التنمية الداخلية تطوير الإنتاج الموجه نحو الخارج. ما يمكن قوله هو أن عهد الملك محمد السادس لم يشهد تغييرا في الاختيارات الجوهرية في العمودين الأساسيين لنموذج تنمية اقتصاد المغرب، وبقي الهدف الوحيد هو تحرير السوق وتشجيع المبادلات التجارية والاستثمارات والقطاع الخاص ككل من جهة، ومن جهة ثانية، تم توقيع اتفاقيات التبادل الحر لتعزيز صادرات البلاد والبحث عن موطئ قدم في الاقتصاد الدولي والاندماج في العولمة. لقد خسرنا هذه التحديات لأن اقتصادنا للأسف مازال يعاني من منطق الريع والامتيازات الخاصة والاحتكار، فالقطاع الخاص المعول عليه لم يعطي أُكله رغم المهام التي أوكلت إليه. وفشل هذا القطاع أكدته تقارير المندوبية السامية للتخطيط قبل أسابيع قليلة، إذ إن الاستثمار العمومي هو الأكبر، وينال هذا الأخير قرابة ثلثي حجم الاستثمارات، رغم كل الإعفاءات والإعانات والامتيازات التي يحظى بها القطاع الخاص الذي لم يعطي الإضافة المرجوة منه. الفشل شمل، أيضا، مهمة التصدير، فالعجز في الميزان التجاري المغربي يقلص من فرص النمو، لأننا عمليا نستورد ضعف ما نصدر، وبعد سنوات طويلة من سياسة الدولة المعلنة، كان من الواجب أن نعيش واقعا مغايرا ومعاكسا لهذا المشهد الاقتصادي. واليوم، الكل يتحدث عن هذا الفشل فقط، لأن الملك أقر بذلك، لما كنا نتحدث فيما قبل عن ذلك لم يكن أحد يهتم بما نقول. بناء على ما سبق، لماذا نجح القطاع الخاص في دول كان لها مستوى قريب من اقتصاد المغرب، ولم ينجح الأمر عندنا؟ لا يمكن فهم جذور الفشل إذا لم نمعن النظر في نظام الحكامة المتبع واتخاذ القرار، أو إذا لم نحلل وضع النظام السياسي المغربي واختياراته. إذ إن اختيارات المغرب قائمة بالشكل نفسه منذ خمسين سنة. من قررها؟ وبتشاور مع من؟ الحقيقة هي أن لنا نظام سياسي يتخذ القرارات بشكل أحادي وبدون إبداء الاهتمام بمشروعية صناديق الاقتراع، وعندما نتحدث عن هذه الصناديق، فنحن نقصد أن نرى قرارات تتخذ بتجاوب مع حاجيات الشعب. تتحدث عن اختيارات النظام السياسي، هل في نظرك أن النظام في المغرب لا يبصر حاجيات وأولويات المواطنين؟ النظام لم يتغير.. لم نشهد تحولا بين عهد الحسن الثاني وفترة حكم محمد السادس، كل المشاريع التي تهيكل الاقتصاد المغربي إلى يومنا هذا هي عبارة عن تفعيل لمخططات قطاعية كالمخطط الأخضر والمخطط الأزرق ومخطط تسريع التنمية الصناعية ومخططات عديدة أخرى، ثم متى سبق وأن سمعنا مناقشة مشاريع اقتصادية كهذه في البرلمان قبل أن نسمع بها مساءً في نشرات الأخبار؟ القرارات خارجة عن أن أي مشاورات وعن أي تداول ديمقراطي. ثم إن هناك أشخاصا لم ينتخبهم أحد، يأتون ليطلوا علينا بقرارات ومخططات لم نسمع بها من قبل. كل شيء يحدث بعد الانتخابات. فهل سمعنا يوما ما مثلا ببرامج ومشاريع كبرى تقدمها الأحزاب ونراها على أرض الواقع بعد الانتخابات؟ برامج الأحزاب الانتخابية تُحَفظ فقط في الرفوف، وما يُطبق فعليا هو كل مشروع لم يناقشه أي شخص علنا. مثلا لم يقدم أي حزب سياسي مشروع القطار فائق السرعة أو مشاريع الموانئ أو الطريق السريع. المشاريع المقبلة من القصر الملكي قد تكون صائبة، وقد تحتمل مجانبة الصواب أيضا، ثم إن العيب لا يكمن في تقديم مشاريع يتبين فيما بعد أن وجودها خطأ، بل العيب هو عندما لا تتجاوب تلك المشاريع مع احتياجات المواطنين، ومع ذلك نعيد الأخطاء نفسها مجددا. أضف إلى كل هذا أن تدبير المشاريع الاقتصادية فيه نقاش كبير، فالفشل يأتي أحيانا نتيجة الخلط في المسؤوليات، فهناك عدة وزراء محسوبين على عدة أحزاب ما إن يسمعوا أن المشروع التابع لوزاراتهم مشروع ملكي، حتى يتراجعوا تلقائيا إلى الخلف، على أساس أن المبادرات الملكية لها أصحابها الذين يقررون فيها، رغم أنهم مسؤولون عن القطاع الذي تنضوي فيه المبادرة المذكورة، من أمثلة ذلك مشروع الحسيمة منارة المتوسط. وفي هذا الصدد يمكننا أن نذكر أمثلة كثيرة مشابهة لمشاريع كان لها مآل مشروع الحسيمة. لذلك غياب الحس بالمسؤولية يبقى له الأثر الكبير في هذه القضايا وهو أمر بإمكانه أن يتكرر إلى ما لا نهاية، ما لم تتغير الأوضاع بشكل إيجابي، لأننا ندور في الحلقة المفرغة نفسها وبالمعطيات ذاتها منذ عشرات السنين. وعلى الأرجح سيُعاد النقاش نفسه بعد عشر سنوات، وستقوم الصحافة الوطنية بالبحث في مكامن الخلل مجددا، أقترح حينها الرجوع إلى عددكم هذا بتاريخ يوليوز 2018. ما الحل في نظرك وسط كل هذه المعطيات لتحقيق ما يجب حصده في المنظومة الاقتصادية المغربية ؟ نظام الحكامة هو الحل، لذلك يجب أن يكون القرار منبثقا من صناديق الاقتراع، ثم أن تدخل تلك التحركات والمخططات الاقتصادية في إطار ملكية برلمانية، حيث الملك يسود والحكومة تحكم وتتحمل مسؤولية حكمها، وأن تحاسب على كل اختيار تتخذه، وأن لا تصل إلى مرتبة الحكم إلا بعد نيل رضا المصوتين على برنامجها الاقتصادي الذي يلائم المواطنين الذين منحوها الثقة. النموذج التنموي، الذي تحدثنا عنه في البداية، يجب أن يُتداول وأن يكون محط نقاش مجتمعي، والبرنامج الناجح هو الذي ينال ثقة الأغلبية، والتجارب الأوروبية خير دليل على هذا، فهي لم تفلح في النهوض بعد حرب عالمية مدمرة إلا باعتماد الديمقراطية في دولها، وسلوك طريق الديمقراطية الواضح لن يكون إلا إيجابيا على اقتصاد الدولة. شهدت سنوات حكم محمد السادس مشاريع اقتصادية لم تكن من ذي قبل، كصناعة في قطاع السيارات والطيران، ونوايا معلنة للتوسع الاقتصادي إفريقيّا، أليست هذه علامات إيجابية؟ يجب أن نتحلى بالوضوح.. صناعة السيارات والطيران والانفتاح الاقتصادي على إفريقيا، هل هي غايات أم وسائل؟ طبعا، لا يجب أن تكون إلا وسائل لرفع مستوى عيش المواطنين، وبالنسبة إلى الصناعة التي تهم قطاعات السيارات والطيران لا يمكن أن نقول عنها إلا «وقت ما جا الخير ينفع»، لكن القيمة المضافة في صناعة السيارات لا تتعدى 35 في المائة، وقبل تصدير السيارات المصنعة في المغرب، هناك نسبة مئوية كبيرة من قيمتها مستوردة من الخارج، وتقريبا الشيء نفسه ينطبق بالنسبة إلى صناعة أجزاء الطائرات. لذلك يجب أن نبحث، أيضا، في أثر هذه المشاريع وفي مساهمتها في رفع مستوى معيشة المواطنين. طبعا، لن نجد عاقلا يرفض هذا النوع من المشاريع، فوجودها أكيد فيه خير من عدمه، لكن ما لا أقبله هو ذر الرماد في عيون الناس بها، وأن نفاخر بين الدول بأننا حققنا المطلوب، وإيهام الشعب بأن هذا هو الطريق الصحيح لإخراجنا من النفق، وعندما أقول بأن هذه المشاريع لم تحقق بعد ما هو مطلوب منها، فهو أمر غير مرتبط بتصريحي، بل بالواقع اليومي الذي يؤكد هذا، فكل نموذج اقتصادي هدفه الأول والأخير، هو رفع النمو ومستوى عيش السكان. فبلغة الأرقام متوسط الدخل الفردي في 2018 بلغ في المغرب 3000 دولار، وإذا ما قارناه بتونس، فالرقم يرتفع إلى 6000 دولار، وفي تركيا إلى 12 ألف دولار، وفي الشيلي أكثر من 15 ألف دولار. فأين نحن من كل ما حققته هذه الدول؟ فمن بإمكانه أن يتباهى بمتوسط دخل 3000 دولار في 2018، دون الأخذ بعين الاعتبار حجم الفوارق الاجتماعية الكبيرة في المغرب، والتي تدفعنا للنظر في عدد كبير من الفئات، والتي لا يتعدى معدل دخلها 1000 دولار. الجهود الاستثمارية غير فعالة وسط كل الظروف الجيو-استراتيجية والأوضاع الإقليمية المتقلبة، هل المغرب قادر على تحقيق إقلاع اقتصادي إذا ما نظرنا إلى إمكانياته، وتحقيق نتائج أفضل مما تقدمه الجهات الرسمية من أرقام نمو جد محدودة؟ طبعا، بإمكاننا ذلك، إذ في العلوم الاقتصادية هناك علاقة ترابط قوية بين الجهود الاستثمارية ومستوى النمو، فعندما نصل إلى 30 أو 35 في المائة من الناتج الداخلي الخام للبلاد، كما كان عليه الحال في السنوات العشر الأخيرة، فمبدئيا يجب أن يصبح معدل النمو ما بين 8 و10 في المائة، لا أن يبقى لصيقا بنمو محتشم نسبته بين 3 و4 في المائة. النتائج التي يحصدها الاقتصاد المغربي تعني بأن الجهود الاستثمارية لم تكن مجدية، لأن الاستثمارات لا يجب أن تكون كمية، بل أن نهتم بنوعها، كل هذه الاستثمارات التي أمامنا هل لها وقع على تخفيض نسبة البطالة؟ وهل حسنت مستوى الدخل؟ إذا كانت التوجهات في هذه المرحلة من حكم الملك محمد السادس غير صائبة، يجب أن نصرح بذلك وأن نبين مكامن الخلل بكل احترام ولباقة، لا أن نكتفي بالتواري فقط، لأن المشاريع المنجزة مشاريع ملكية، وفي هذا السياق يجب أن أذكر بأن سوسيو-اقتصاديا الطبقة البورجوازية لم تلعب بعد دورها التاريخي لإنقاذ الاقتصاد والمجتمع في المغرب، كما أن النخبة التي تتخذ القرار في المغرب لا تريد القيام بفحص جريء لإعادة النظر واعتماد أساليب مغايرة تكون أكثر مردودية في النتائج المسجلة.