لم يكتف منظمو مونديال روسيا بالتفكير في جماهير الملاعب، بل فكروا في تلك الجماهير التي لا تملك تذكرة الملعب، والأخرى التي تعشق الفرجة مع الجموع بعيدا عن "صداع الملاعب"، خصوصا حين يتعلق الأمر بمباريات تلعب في مدن أخرى أو ملاعب يصعب الوصول إليها. هكذا كان مشروع الفان فيست ناجحا؛ بل ناجحا جدا. منطقة لوجينيكي.. نموذج رائع للفرجة ملعب لوجينيكي بالعاصمة الروسية موسكو تحفة فنية متميزة. موقعه الجميل جدا على مشارف النهر يزيده بهاء. والخضرة التي تحيط به تسحر العيون. وتمثال لينين، الذي يقف شامخا عند مدخله الرئيسي، يوحي بأن الأمر يعني واحدة من المعالم التي تهتم بها الدولة كثيرا. أما الطريق إليه فأشبه بفسحة في متنزه شاسع. تظن لبعض الوقت، وأنت تمضي نحوه، أنك قد ضللت طريقك، أو أنك نزلت بالمحطة الخطأ للميترو. فالمسافة طويلة للغاية بين محطتك والبوابة الكبيرة. وهناك دائما بداية أخرى لمسيرك، فلا تتعب. دعك الآن من ملعب لوجينيكي، الذي استقبل 12 مباراة من أصل 64 مواجهة مونديالية. فهو لم يكن الوجهة الأروع للجماهير. حتى وهو يستقبل الحشود بطريقة جميلة ومدروسة، جعلت الحضور يصل إلى مواقعه بهدوء، وطمأنينة، واستمتاع. المكان الأجمل، والذي كانت الجماهير تحج إليه حتى في غياب مباراة بملعب لوجينيكي هو الفان فيست. ذلك الفضاء الفسيح، الذي يتسع لما يزيد عن 25 ألف شخص، على الربوة المطلة على الملعب. ويتيح رؤية جانب مهمة من العاصمة، وجانب من نهر موسكوفا، والتملي في البناية الضخمة لجامعة موسكو الحكومية. الذي خطط للفان فيست بموسكو، مثلما فعل بمدن أخرى؛ وهنا النموذج، فكر في ضرب عدة عصافير بحجر واحد. قدر أن يجعله بوابة الجماهير نحو الفرح، والفسحة، والفرجة، ولكن، وهذا الأهم، نحو مشاهدة ماتعة للمدينة؛ أي المعالم الأبرز، من مكان بحد ذاته معلمة، يسحر بخضرته، وشساعته، وبساطته أيضا. على اليمين والشمال شجر يكسو كل المكان. وفي الأمام بناية الجامعة الحكومية تقف شامخة كجبل منضود من رخام أبيض. وفي الوراء؛ وهو الأمام الآخر، ملعب لوجينيكي، والطريق المزدوج إلى عمق العاصمة، والنهر، والكثير من القباب الذهبية للكنائس الكبرى. كأن شيئا لم يترك للصدفة. وهو كذلك بطبيعة الحال. فمنطقة الجماهير بموسكو ظلت تستغل للعديد من التظاهرات الكبرى. كأنها أنشئت لأجل ذلك. وكان عاديا أن تختار لغرض المساهمة في إنجاح مونديال روسيا. لا سيما أنها توجد على الربوة الأشهر بالعاصمة، ولا يمكن لزائر أن يأتي إلى المدينة دون أن ينصحه أهلها بزيارة المكان. زيارته حتى ولو لم يكن هناك مونديال فيفا لكرة القدم. فان فيست.. شاشة ومعرض وألعاب.. متعة المتع أن تصل منطقة الجماهير التابعة لملعب موسكو عبر الملعب نفسه. فلا شك أنك ستمر بتجربة رائعة. فالطريق تعبر بك من غابة جميلة مطلة على النهر. لن تكون وحدك بالقطع، بل برفقة كل الأجناس من كل العالم، وبرفقة كل الفئات العمرية، وكل الفئات الاجتماعية أيضا. لن تشعر، وأنت وسط موجات متلاطمة من المشجعين، بأنك تقطع مسافة طويلة جدا. ستسحرك الأشياء من حولك تارة، وتنشغل بالتشكيلات الأمنية تارة أخرى، وستخلب لبك تلك الابتسامات التي تنبع من قلوب المتطوعين تارات، لتجد نفسك في النهاية وقد وصلت إلى أعلى الربوة، حيث فان فيست موسكو. قبل أن تدخل إلى المنطقة الجميلة، ستجذبك، قطعا، تلك القنطرة على الطريق، حيث يختار كثيرون أن يقفوا للحظات، طالت أو قصرت، للتأمل في الطرف الآخر من العاصمة، حيث تظهر عدة معالم جميلة، تستحق أن ينظر إليها من ذلك المكان. فالنظر يسافر بعيدا، ثم يمسح المدينة رأسا، وإذا به يعود مع الآتين في الطريق، ليصل إلى حيث يقف صاحبه أو صاحبته، ثم ينتهي المطاف بالأخير إلى المضي نحو الفان فيست. هناك رحلة أخرى. في المدخل أجهزة تفتيش بالأشعة فوق الحمراء. ورجال أمن. سرعان ما يعبر المعني بالأمر إلى الطرف الآخر. العملية سلسة للغاية. والأمنيون يبتسمون لك، ويرحبون بك. ثم إذا بك تجد نفسك في مكان له طقوسه الخاصة. هنا آلاف البشر من مختلف أنحاء العالم جاؤوا يبحثون عن فرجة من نوع مختلف. لن يشاهدوا اللاعبين يركضون في الملعب، بل سيشاهدونهم على شاشة عملاقة، وضعت في مكان فسيح جدا. وحين تنطلق المباريات، لا يعم الصمت، بل موسيقى من كل لون، وطنين كطنين النحل. أما حين يجترح أحد اللاعبين مراوغة، أو تسديدة، أو ضربة بالرأس، أو يقترب من إحراز الهدف، فيعلو الصمت الذي يسبق عاصفة من أجمل العواصف. إنها إما صوت الفرح الذي يعم المكان، أو صوت الاستغراب الذي يعلو على غيره، أو تصفيق يضع الجمهور نفسه به على مدرجات وهمية. الذين جاؤوا إلى فان فيست موسكو، أو غيرها بمدن أخرى، ولم يكن في نيتهم أن يشاهدوا المباريات على الشاشات الكبيرة، أو بدا لهم أن يغيروا رأيهم في آخر لحظة لسبب من الأسباب، لم يكونوا ليغادروا رأسا. فهناك ألعاب كثيرة للأطفال، وهناك محلات لشراء المأكولات، وهناك كراس جميلة من رخام وحديد لإراحة البدن والتأمل، وهناك معارض للألبسة الرياضية حيث يحلو التجول والنظر، وربما اقتناء شيء يصلح للتريض. هناك أشياء كثيرة داخل المنطقة، ليس بالضرورة كلها لمشاهدة مباراة في كرة القدم. شعب الفان فيست.. لا ينهزم.. كل المباريات التي نقلت على شاشات الفان فيست، خلال فترة مونديال روسيا 2018، شهدت روحا رياضية غاية في الروعة. صادفنا مباراة لمنتخب البرازيل ضد المنتخب المكسيكي، شوهدت في منطقة المشجعين التابعة لملعب لوجينيكي بالعاصمة موسكو، فإذا بنا نقف على مدى تعاطي الجماهير، من مختلف البلدان، وبخاصة من البرازيل والمكسيك، مع المباراة على أنها تدخل في إطار لعبة ليس إلا. لم يحدث أن تشابك أحدهم مع الآخر لسبب من الأسباب تتصل بكرة القدم. ولم يعنف أحد غيره بسبب المباراة. ولم يسب أحدهم الآخر لأنه نال من فريقه أثناء متابعتهما المواجهة على الشاشة العملاقة. فالكل يشجع ما يريد، كيفما يريد، مع احترام غيره في تشجيعه هو الآخر لما يريد وكيفما يريد. ولا أحد يتجاوز النطاق المسموح له به. فمن جاؤوا إلى المنطقة فعلوا ذلك كي يشعروا بالسعادة، وهذه مجال واسع، بحيث يتسع للجميع، دون احتكار من أي كان. لحظة المغادرة جميلة للغاية. فمن شجعوا المنتخب المنهزم لم ينهزموا بهزيمته. ومن شجعوا المنتخب المتفوق لم يشعروا غيرهم بأنهم الأفضل، وأنهم من يستحق أن يفرح. فالفرح وُزع على الجميع لحظة المغادرة، وإذا بمن يبكون، أو يتحسرون، يمتزجون مع غيرهم ممن يعلنون فرحهم بقوة، دون أي حرج. وفي لحظات يتحول المكان إلى مسرح للفرحة. ويصنع الجمهور فرجته الخاصة به. يترفع عن كل ما وقع في الملعب. ويغني، ويتمايل. وينسى ما كان، ليعيش ما هو عليه، وما جاء لأجله. في الخارج، تنتظر حافلات جميلة ونظيفة لحظة الإقلاع. إركب يا سيدي، واستعد للحظة، وُقتت بالدقيقة والثانية، للمضي نحو هدف معلن مسبقا. ستذهب إلى طرف آخر من المدينة، حيث يمكنك أن تنتقل في وسائل أخرى، بالمجان. لا تهتم لشيء آخر غير راحتك. واستمتع بمشاهدة المدينة من مكان آخر. لقد انتهت المباراة، وستبدأ أخريات. وعليك أن تستعد لبقية المونديال بكل روح رياضية نشرتها أو تعلمتها من منطقة المشجعين. معالم سياحية.. استثمر الروس، على نحو جيد للغاية، معالمهم السياحية الفاتنة في كل المدن، الإحدى عشر، التي أقاموا فيها مناطق خاصة بالمشجعين. وكان الهدف غير المعلن، ولكن الواضح للغاية، هو إنعاش السياحة الروسية، ببصم أذهان كل مشجع بما حوله من جمال، يدعوه إلى التفكير المتكرر في ضرورة العودة إلى المكان نفسه، مرات ومرات، لعله يستمتع به بعيدا عن صخب الكرة والمونديال. وفي كل المدن التي اختيرت لتحتضن مباريات كأس العالم فيفا لكرة القدم كان واضحا أن مناطق المشجعين أحيطت بعناية خاصة. ففضلا عن الأمن، والنقل، ومحلات بيع المأكولات والمشروبات، ومحلات بيه الملابس الرياضية والكرات وغيرها، لم ينس المنظمون أن يوفروا المجالات الخضراء؛ أي البيئة النظيفة، ثم المراحيض، وهي التي وضعت بكثرة وفي أمكان تجعلها قريبة من كل ذي حاجة مستعجلة لا ترد. ورغم أن الآلاف حضروا إلى تلك المناطق، حتى إن الاتحاد الدولي لكرة القدم قدر العدد الإجمالي لمن استعملوا مناطق المشجعين بخمسة ملايين طيلة فترة المونديال، فإن عملية الولوج، واستعمال الأساسيات، كانت تتم بسلاسة، جعلت الناس يجمعون على أن ذلك دليل آخر على نجاح الدورة.