كثير من مناطق المغرب تعيش فقرها وتهميشها في صمت، ولا يعرف المغاربة في باقي المناطق، أي شيء عنها إلا بعدما يأتي حدث استثنائي كالذي شهدته مؤخرا في قرية سرغينة، لنكتشف حجم معاناة الناس وبؤسهم هناك. في هذا الروبورطاج نتعرف على واقع قرية سرغينة التي اشتهرت بواقعة البحث عن الكنز المفقود، وموارد وإمكانيات القرية المهدورة وآلام وآمال ساكنتها. استغرقت رحلتنا التي انطلقت من مدينة الرباط نحو قرية سرغينة أو ما يطلق عليها "جبل الكنز"، والتي تبعد عن بولمان ب 30 كلم خمس ساعات ونيف، بمجرد وصولنا إلى بولمان، بدأت ملامح الطريق تتغير، مسلك مهترئ يوشي وكأن دبابة مرت من فوقه، منعطفات تحاصرها الجبال من كل جانب، لا شيء كان يدل على أننا وصلنا إلى المكان المقصود غير لوحة يكسوها الصدئ كُتب عليها "سرغينة"، المبنى الوحيد البارز في سرغينة، هو القيادة الموجودة في البناية نفسها مع رئاسة الجماعة. ما إن توقفنا في مدخل القرية، حتى أحاط بنا رجال قدموا لنا أنفسهم على أنهم من "الداخلية" سحنتهم ولهجتهم تدل على أنهم أبناء المنطقة. بعد سؤالنا عن سبب قدومنا إلى المنطقة طلبوا بطائقنا الوطنية ليأخذوا نسخة منها، كان الارتباك باديا عليهم، وعند سؤالنا عن "جبل الكنز" ترددوا في الإجابة قبل أن يجمعوا على أن معلوماتهم لا تتجاوز معلومات عموم المواطنين، الذين شاهدوا الحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، غير أن أحدهم عاد ليقول إن الذين شاركوا في "ملحمة الكنز" ليسوا أبناء المنطقة، بل حجوا إليها بعد سماعهم بالخبر.. بعد تخلصنا من حاجز الداخلية "مقدم وأعوان السلطة"، توجهنا إلى قرية "آيت علي"، التي شهدت الحدث الذي حظي بتتبع المغاربة والأجانب، أوقفتنا سيارة كانت تلاحقنا، نزل منها رجل يبدو أنه في نهاية عقده الرابع، قدم لنا نفسه أنه "شيخ القبيلة"، أعاد السؤال علينا عن سبب حضورنا القرية، بعدها عرض المساعدة ليوصلنا إلى منزل "صاحب الكنز". بعد رفضنا للمساعدة ظل يتعقبنا إلى أن وصلنا إلى الدوار الذي يبعد عن سرغينة بكيلومترين..بدت القرية للوهلة الأولى شبه مهجورة، منازلها من الطين صغيرة الحجم لا يتعدى عددها ال20 منزلا، يفرق بينها واد جاف قيل عنه إنه في فصل الشتاء يتسبب في قطع الطريق بين ضفتي القرية. طرقنا أول باب منزل يصادفنا، خرجت منه شابة في مقتبل العمر، بيضاء البشرة قصيرة القامة، بعدما شرحنا سبب وجودنا بالقرية، أبدت تحفظا في الحديث إلينا، لكن بعد الأخذ والرد معها انفرجت أساريرها وانطلقت في الحكي عن قصة "الكنز"، وكيف أقنعهم الحسين أن يحجوا إلى قمة الجبل في نهار رمضان الحار. كانت تضحك، وفي بعض الأحيان تذرف الدموع وهي تجمع خيوط الحكاية التي جعلت من منطقتها، التي لا يعرفها أي أحد، أشهر مناطق المغرب. تقول أسماء (اسم مستعار)، إن ابن جارتهم ذات صباح رمضاني جمع حوله ساكنة الدوار وأخبرهم أنه رأى رجلا في المنام أخبره عن مكان كنز الجبل، وحدد له موعد استخراجه في ليلة القدر، كان حديثه غريبا وغير منطقي، تردف أسماء، لكن بعد خطابه لهم وما يعرفونه عنه من أخلاق حميدة وصدق، جعلهم يصدقون أن هذا الكنز هو وعد الله للمنطقة، وأنهم سيصبحون أغنياء. "منذ ذلك اليوم، ونحن نعيش على حلم أن يصل ذلك اليوم، حيث بدأنا نخطط لحياة جديدة، لكن في الأيام الأخيرة انتابنا الخوف من أن يخرج كائن من الجبل يهد علينا المنطقة ومن فيها"، تقول المتحدثة. في اليوم الموعود خرج الأهالي من نساء وشيوخ وأطفال وشباب، يحجون إلى قمة الجبل، هناك من يحمل حقيبة وهناك من يحمل كيسا، جلسوا وانتظروا معجزة "الحسين"، الذي وعد بإنقاذ المنطقة من الفقر. إلى آخر لحظة لم يشكوا أن الكنز المرغوب هو مجرد ضرب من الخيال، وأنهم تبعوا السراب. "كانت صدمتنا كبيرة في أن كل ذلك كان من نسج خيال الحسين وأنه لا كنز داخل الجبل، وصدمتنا كانت أكبر بعدما أكدت لنا السلطات أن هذا الأخير مختل عقليا وغير متوازن". رجل آخر من أبناء المنطقة ممن التقيناهم أكد على أن أسطورة الكنز في المنطقة قديمة، وأن الجبل فعلا يوجد فيه كنز، موضحا أن "صاحب الكنز" لم يؤلف قصصا من رأسه، بل كان يريد استخراج كنز الجبل لتستفيد منه منطقته. المتحدث أكد على أن هناك من يستفيدون من كنز الجبل، في إشارة إلى المنجم "الكالسيت" الموجود بالمنطقة، ما يطرح علامة استفهام حول المنجم المذكور، وهل هو الكنز الذي كان يبحث عنه "صاحب الكنز".. رحلة البحث عن الكنز كان لافتا مرور الشاحنات المحملة بمعدن "الكالسيت"، الأشغال في قمة الجبل على أشدها، عملية الحفر والتحميل، أصوات التفجير، الذي يهز قرية "أيت علي" التي تعرف السكون، عيون الناس على ذلك المقلع الذي لا يستفيد منه أبناء المنطقة على حد قولهم. "ذلك المعدن هو كنز المنطقة الذي بحث عنه الحسين"، يقول أحد أبناء المنطقة، "كلنا نشاهد الشاحنات تحمل وتغادر وتأخذ خيرات بلادنا ونحن كأننا غير معنيين بالأمر"، ويضيف "منذ أزيد من عشرين سنة وهذا المقلع يعمل وأصحابه يتنقلون وسط الجبل دون محاسب أو مراقب، ودون أن تستفيد منه القرية". وحسب المعلومات التي استقيناها، فإن المقلع لا يشغل أبناء المنطقة، بل يجلب العمال من مناطق أخرى، حيث أكد حارس المقلع الذي ينحدر من الغرب، أن الأخير يشغل 14 عاملا، جلهم من مناطق بعيدة عن سرغينة، وأضاف أن "طيلة مدة عمله، التي تجاوزت الخمس سنوات، لم يلتحق بالعمل أي عامل من أبناء المنطقة أو الإقليم". المتحدث ذاته، يجهل سبب توظيف عمال من خارج المنطقة، لكن حسب أحد المستشارين الجماعيين، الذي رفض ذكر اسمه، فإن العمل في المقلع يحتاج إلى تقنيات معينة وتكوين، وهو ما لا يتوفر في أبناء المنطقة، وأضاف أن "حتى العمل الذي يحتاج إلى مجهود بدني فقط، لا يقوى الأهالي على استحماله"، مشددا على أن "المنطقة تعرف خمولا وساكنتها لا تحب العمل الشاق، وأنها ألفت الأعمال البسيطة التي لا تحتاج إلى جهد". وعكس رواية المستشار الجماعي، تقول مليكة الجمعوية الوحيدة بالمنطقة، إن "السكان يرغبون في العمل مع الشركة، لكنهم يرفضون تشغيل أبناء المنطقة"، معتبرة أن "الكنز الذي كان يبحث عنه الحسين، هو الكنز نفسه، الذي تحمله الشاحنات كل يوم أمام أنظار السكان دون أن يستفيدوا منه أي شيء"، وزادت "ما الذي يدفع ذلك الشاب لأن يقول إن الكنز يوجد في نفس ذلك الجبل، لولا أنه يشاهد كل يوم كنز منطقته يُغني الأغراب، والأهالي يتضورون جوعا". المنجم الذي تستفيد منه شركة "أمنية"، حسب الحارس ذاته، يشحن أزيد من 14 شاحنة في اليوم، كلها تحمل بالحجر لتنطلق إلى العاصمة الاقتصادية، حيث هناك يوجد معمل تصنيعه، "يُقال إنه يصنع به أنواع من الصباغة"، يقول المتحدث، لكننا لا نعرف بالضبط أين يستعمل. الأمر نفسه أكده محمد الزاهي، رئيس جماعة سرغينة، حيث قال في حديثه ل"أخبار اليوم"، إن الحجر المستخرج من المنجم يستعمل في صناعة الصباغة، لكنه نفى أن يصل عدد الشاحنات، التي تخرج كل يوم إلى 14 شاحنة، موضحا أن "عدد الشاحنات لا يتعدى سبع على مدار الأسبوع، وفي بعض الأحيان لا يعمل المقلع لأيام داخل الأسبوع". غير أن المعلومات التي استسقتها "الجريدة" تقول إن هناك منجما يشتغل بشكل يومي لأزيد من 12 ساعة، بينما يوجد بالقرب منه منجمان يشتغلان بين الفينة والأخرى. من المستفيد من منجم "الكالسيت"؟ مداخيل الجماعة من هذا المقلع، الذي يطلق عليه أبناء المنطقة "كنز سرغينة"، حسب رئيس الجماعة مؤطرة برسم، هذا الرسم الذي تتوفر عليه الجماعة لاستخراج المعدن يحدد ثمن المتر المكعب بين 3 و6 دراهم، وأن المجلس الجماعي ارتأى فرض الثمن الأقصى على الشركة أي 6 دراهم، موضحا أن مداخيل الجماعة من الشركة تقارب 24 مليون سنتيم في السنة، وهو مبلغ غير كاف لسد حاجيات المنطقة يقول الزاهي، وأضاف أن كل شاحنة يصل حجمها إلى 27 مترا مكعبا، والسحب يكون حسب حاجة المعمل إلى ذلك". أحد المستشارين المعارضين، أكد في حديثه ل"أخبار اليوم" أن قيمة الاستفادة من المقلع تتجاوز المصرح بها في المجلس الجماعي، وأن هناك أناسا معينين يستفيدون منه، إما بتشغيل شاحناتهم لنقل البضاعة أو ببيع الحجر لحسابهم، حيث أوضح أن عددا من "المسؤولين في المنطقة لهم شاحنات يشغلونها مع الشركة"، مشددا على أن أبناء المنطقة لا يستفيدون من المقلع وحتى الطرق التي تم اقتلاعها بفعل ثقل الشاحنات التي تمر عليها يوميا، لم يتم إصلاحها وحالتها تتدهور كل يوم. وفي هذا الصدد، قال الزاهي إن الجماعة "غير مسؤولة عن تجهيز الطرق المرقمة، بل هي من اختصاص وزارة التجهيز، وهي التي يجب أن تقوم بهذه العملية"، مضيفا "حتى الترميم يصعب علينا القيام به في غياب الإمكانيات. وزارة التجهيز لها ميزانيتها والإمكانيات لإصلاح الطرق. ولو افتراضا هذا الاختصاص موكول لنا، هل لدينا الإمكانيات لإصلاح هذه الطريق؟" يردف المتحدث، وزاد "ميزانية الجماعة لا تتعدى مليونين و800 ألف درهم. مليون و800 ألف درهم تذهب فقط، إلى ميزانية التسيير ويبقى هامش بسيط به نشتغل ونبرمج المشاريع لسد احتياجات السكان". ويرى سكان المنطقة أنه كان من المفروض على الجماعة أن تفرض على الشركة أن تشغل أبناء المنطقة، عوض جلب عمال من مناطق أخرى، لكن أحد نواب رئيس الجماعة أكد أن الجماعة بالفعل وضعت هذا الشرط على مستغلي المنجم، وأن عددا من أبناء المنطقة اشتغلوا بعض الوقت هناك، إلا أنهم غادروا العمل ورفضوا العودة إلى هناك، مشيرا إلى أن صعوبة ظروف العمل لا يستحملها أبناء المنطقة. وتابع "أيضا هناك أعمال تحتاج إلى خبراء مثل التفجير، وأيضا سياقة الشاحنات، وهو غير متوفر في سكان المنطقة". وفي سؤالنا عن سبب عدم عقد شراكة مع الشركة لإخضاع أبناء المنطقة لتكوينات مكثفة في الوظائف التي تحتاجها الشركة، رد بالقول: "إن الشركة لا وقت لها لذلك، وهي تجلب أشخاصا لهم خبرة ليسهلوا عملها". هشاشة المنطقة! تبدو جماعة سرغينة وكأنها جماعة مهجورة لا حياة فيها، بنايتها مهترئة طرقها مليئة بالحفر، كأنها مدينة أشباح، شباب يتخذون جنبات الطريق ملجأ لقتل الوقت قبل أن يقتلهم، نساؤها يحملن على أكتافهن عبء الحياة ويواجهن صعوبة الحياة بابتسامة خافتة وترديد "هذا قدرنا". عند وصولنا إلى قرية "آيت علي" كانت النسوة يتجمعن حول منبع الماء الوحيد ب"الدوار"، بعضهن يغسلن الملابس والبعض الآخر يملأن قارورات الزيت الفارغة بالماء الشروب بعد تصفيته بقطعة ثوب شفاف. حسب النسوة، فإن هذا المنبع يشترك فيه الدواب والسكان على حد سواء، معبرين عن تذمرهن من هذا الوضع، خصوصا وأن منطقتهن معروفة بمياهها الوافرة وتزويدها للمناطق الأخرى بالمياه. إحدى النساء التي قبلت الحديث إلينا بعد جهد جهيد، حكت لنا والدموع تسبقها عن معاناتهن اليومية، مع قلة الماء والظروف القاسية التي يواجهنها بعد مغادرة أزواجهن للعمل خارج القرية، "منا الرجل ومنا لمرا، نعمل طيلة النهار من أجل توفير لقمة العيش، أغلبنا هنا يعتمد على الزراعة المعيشية. فكما ترين لا سوق أسبوعي لنا ولا بقال نقتني منه حاجياتنا". "أطفالنا يجدون صعوبة للتنقل إلى المدرسة، وفي أغلب الأحيان نضطر إلى منعهم من الذهاب خوفا عليهم، خصوصا في فصل الشتاء الذي يعرف تساقطات ثلجية تغطي في بعض الأحيان المنازل"، تقول المتحدثة. تصمت لبرهة، ثم تكمل حديثها "نساؤنا يغادرن الحياة على الطرقات وهن متوجهات صوب مستشفى بولمان، الذي يبعد بأزيد من ساعة ونصف لوضع مولودهن. المستوصف، الذي يوجد في الجماعة، مغلق لأنه لا طبيب فيه، نحن أموات هنا لولا هذه الحادثة لما عرف المغاربة بوجودنا على قيد الحياة".تقاطعها سيدة أخرى قائلة: "خلال فصل الشتاء الماضي، جارتي توفيت في الطريق إلى المستشفى بعدما حاصرها الثلج، ظلت هناك لساعات قبل أن تفارق الحياة"، وتضيف "نحن رضينا بقدرنا الذي رمانا في هذه المنطقة، لكن على المسؤولين أن يتذكرونا وينقذونا من شبح الموت ويعيدوا إلينا أزواجنا وأبناءنا، الذين لا نراهم إلا مرة كل سنة بحكم عملهم خارج المنطقة"