في الجزء الأول كنا تحدثنا عن البناء العشوائي لاختيارات حكومات ما بعد الربيع فيما يخص المسألة التعليمية، وهي ختيارات تعيد الخطايا نفسها، التي تعني أن القرار فيما يخص المنظومة التعليمية ليس بيد الحكومات المتعاقبة، وأنها من المجالات المحفوظة بدون قرار معلن سوى التقاليد المرعية، وأن الفاعل الحزبي المؤسساتي لا يمتلك لا الجرأة ولا الإبداع من أجل الاقتراب من عش الدبابير هذا، هذا البناء العشوائي لا يخضع لأي ضوابط مرجعية، ودعك من اجترار الكلام الببغائي حول الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وحول الرؤية الاستراتيجية التي جاء بها المجلس الأعلى للتربية والتكوين، لأنهما وثيقتان تقولان كل شيء ولا تقولان شيئا، تتضمنان جزءا مما هو من باب السماء فوقنا، وجزءا مما لا إمكانية للبلد على اجتراحه، لا من حيث الموارد المالية أو البشرية أو القرار السياسي المحافظ. والتركيبة التي صاغت الميثاق بتوافق حزبي نقابي لا تمثل المكونات الحقيقية للأمة، مثل ذلك مثل التركيبة التي صاغت الرؤية الاستراتيجية في تغييب تام لأهل الميدان من بيداغوجيين ومختصين في الديداكتيك والتهيئة اللغوية والتخطيط التربوي، تركيبتان من حزبيين بأفق ضيق ومن نقابيين حصروا مشاكل المنظومة التربوية في ملف مطلبي بأولويات فئوية. فبعد استبعاد مرسوم فصل التكوين عن التوظيف، وبعد فشل مشروع تكوين عشرة آلاف إطار بالمدارس العليا للأساتذة، وبعد انفضاح ادعاء أن التوظيف بموجب عقود لم يكن سوى تدبير لأزمة الخصاص المفاجئة، اتجه القائمون على الشأن التعليمي نحو "ترسيم" هذا الشكل من التوظيف وإضفاء الشرعية القانونية عليه من خلال مصادقة المجالس الإدارية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين على الأنظمة الأساسية لموظفيها التي صيغت في خلية نائمة بالإدارة المركزية بالرباط، أنظمة أساسية تصادق عليها الأكاديميات وهي ليست واضعتها، أنظمة تعلن ضمنا التوظيف بعقود كشكل وحيد للالتحاق بمهن التدريس. هذا النمط من التوظيف الذي تم تبريره في مرحلة أولى بمشكل الخصاص، ليتم ربطه في مرحلة ثانية بالجهوية المتقدمة المفترى عليها، هذه الجهوية التي لا وجود لها على أرض الواقع، ويتم اتخاذها كقميص عثمان مشجبا لشرعنة كل سياسة أو اختيار يفتقد للمبررات والعقلنة. هذه التبريرات المتناقضة لهذا الاختيار تبين أن مهندسه غير المعروف تكلف بوضعه وفرضه دون استشارة المعنيين بتنزيله، ودون توضيح فلسفته، وأوكل للحكومة والمسؤولين المركزيين والجهويين بالوزارة عناء "اختراع" الدواعي والأهداف. لماذا يتوجب رفض هذا النمط من التوظيف في قطاع حساس كالتعليم؟ أولا: لا نجد تفسيرا للانتقال من اختيار ترسيم الأساتذة بعد قضاء سنة تكوينية في المراكز الجهوية للتربية والتكوين وفق النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية، نحو التوظيف بموجب عقود لدى الأكاديميات مادامت التكلفة المالية لن يطرأ عليها تغيير، ومادام النظام التكويني هو نفسه. ثانيا: يهدد هذا الشكل من التوظيف الاستقرار المهني والنفسي للأساتذة/ات مادامت سلطة مدير الأكاديمية واسعة في فسخ العقدة، فهناك عقوبات فضفاضة توجب العزل مباشرة ودون تعويضات ولا مجلس تأديبي (أفعال تمس بالأخلاق العامة- ممارسة العنف اللفظي- الأداء المهني..)، وحتى العقوبات الناتجة عن مداولات لجنة الأطر الممثل فيها مندوبون عن الأساتذة المتعاقدين تبقى ذات طابع استشاري فقط، ولا قوة إلزامية لها أمام سلطة مدير الأكاديمية. ثالثا: الاستقرار المهني والنفسي لا يستهدف الأساتذة المتعاقدين فقط، بل يستهدف مستقبل المدرسة العمومية، إذ أمام غياب الترسيم وغموض أفق التعاقد قد نشهد هجرة معاكسة للأساتذة المتعاقدين نحو المدارس الخصوصية التي قد تقدم لهم إغراءات، ماداموا حائزين على الإجازة (ومنهم الحائزون على الماستر والدكتوراه) وشهادة التأهيل التربوي ودبلوم الكفاءة المهنية، مضافا إلى سنوات معتبرة من الأقدمية. فأمام غياب أي شكل من التحفيزات، وأمام نظام أساسي مجحف قائم على الإذعان، فقد تستثمر المدارس الخصوصية في استقطاب أجود كفاءات الأساتذة المتعاقدين (كونطرا كونطرا، اللهم في القطاع الخاص (لبريفي) بلا صداع الاكتظاظ وما جاوره). رابعا: من بين نقط ضعف المنظومة التعليمية بالمغرب، هو وجود فئات مختلفة بمطالب متباينة تدرس الأسلاك ذاتها، وكل فئة تخوض معاركها الخاصة بما فيها الإضرابات دفاعا عما تعتبره حقوقها المشروعة، مما ينعكس سلبا على زمن التعلم، فمن فئة الأساتذة حبيسي الزنزانة رقم 9 إلى الأساتذة المطالبين بالترقية وفق شهاداتهم، مرورا بالأساتذة المبرزين وأساتذة التعليمين الابتدائي والإعدادي المحرومين من الترقية لخارج السلم ضدا على قانون الوظيفة العمومية، وأساتذة المناطق النائية المطالبين بتعويضاتهم، فضلا عن ضحايا الحركات الانتقالية، خصوصا من طالبي/ات الالتحاق بالأزواج وذوي الأمراض المزمنة. هذا غيض من فيض الفئات التي تشكل ندوبا، فمن صاحب فتوى إضافة فئة جديدة يبلغ تعدادها حاليا حوالي 55 ألف أستاذ متعاقد بمطلب الإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية؟ حركة الأساتذة المتعاقدين اليوم، لها شهيدها (توفي أثناء أدائه لواجبه الهني)، ولها مطرودوها، ولها ملفها المطلبي، ولها أدوات ضغطها، ولها تنسيقيتها، ولها شعاراتها وشرعيتها الميدانية.. أي لها كل مقومات الحركة الاجتماعية.