لم تكن رواية محمد شكري الموسومة ب"الخبز الحافي" مغمورة تماما، كما قد يعتقد القراء الشباب اليوم، بل كانت رواية معروفة ورائجة إبان صدورها. لكن الرقابة التي فرضت عليها، بعد ما حققت خمسة وعشرين ألف نسخة من المبيعات، زادت من شهرتها ورواجها، ونقلتها من المحلية إلى العالمية، علما أن الرواية كانت قد ترجمت إلى الإنجليزية أولا، ثم إلى الفرنسية بعد ذلك. ضمن حلقات "في ضيافة الرقيب"، سنخصص لها ثلاث حلقات متتابعة لأهمية حدث منع الرواية، ونظرا إلى كون هذه الأهمية مازالت راهنيتها تتواصل إلى يومنا هذا. نستهل هذه الحلقات الثلاث، بما كتبه الناقد والروائي نور الدين صدوق، خصيصا لجريدة "أخبار اليوم" عن هذه الحالة، وهو أحد العارفين الملمين بكرونولوجيا منع "الخبز الحافي"، وبما رافق ذلك من نقاشات أدبية وإعلامية: "إن من المفارقات البليغة عن فترة الرقابة كما عايشت بعض مراحلها، أن المادة المنتوج المراد منعه لا يطاله ذلك، إلا وقد وجد طريقه إلى سوق التداول. بمعنى، أن ما يسمى بالقراءة الرقابية القبلية قد لا يتم. عاينت هذا بخصوص الكتب الفكرية والأدبية ذات التوجه التقدمي اليساري، وانتهى معظمها إلى الأفول نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات. وأعتقد، بأن ما حدث للجزء الأول من سيرة محمد شكري "الخبز الحافي"، يندرج في السياق ذاته، ولئن كان يرتبط بوضعية محلية وخاصة. ذلك أني قرأت فصولا من هذه السيرة موسومة ب: "من أجل الخبز وحده" حال نشرها على صفحات الملحق الثقافي لجريدة "المحرر" الموقوفة. وهو العنوان ذاته الصادر في الترجمة الإنجليزية التي أقدم عليها الكاتب الأمريكي "بول بولز". إلا أن ظهور هذا الجزء في طبعته الأولى، سواء باللغة العربية أو الفرنسية تحقق وفق العنوان "الخبز الحافي"، الذي قيل بأن الناقد والروائي "محمد برادة" قد تكفل بوضعه، فيما أنجز الترجمة الشاعر والروائي "الطاهر بن جلون". بيد أن مفارقة الرقابة والمنع، لم تتم إلا بعد صدور خمس طبعات، أي ما يكاد يصل إلى (25000) ألف نسخة. والواقع أنه- في نظري- لو لم تتدخل الجهات المحافظة لمنع السيرة في جزئها الأول (وهو ما لم يحدث للثاني والثالث) بمبررات دينية وأخلاقية، لما طالها المنع. والغريب، أن المنع امتد فقط، إلى النسخة الأصلية دون المترجمة، مع مطلق العلم أن سوق القراءة باللغة الفرنسية أكثر ازدهارا- وإلى اليوم- إذا قيس بالتلقي الأدبي العربي. بيد أن ما يلفت النظر، الصيغة التي تحقق بها المنع. إذ قيل بأنه تم بواسطة الهاتف كأمر بعدم تجديد أو إعادة الطبع. بمعنى آخر، فإنه لم يكن مكتوبا ويعتمد كدليل عن نص بات في حكم العالمية. ولذلك، فحين سئل وزير الإعلام الكاتب والمثقف الراحل "محمد العربي المساري" عن دواعي منع هذه السيرة، اعترف بأنها غير ممنوعة بقرار رسمي. والملاحظ، أن ما طال هذا الجزء من حيث المنع، سيكون ذاته لما قررت على طلبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة. إذ، وبعد تداول وتلق واسع، صدر قرار بمنعها، وهي الصيغة ذاتها التي طبقت على رواية "وليمة لأعشاب البحر" للروائي السوري "حيدر حيدر". إن واقع الرقابة والمنع عربيا، يتم ويتحقق بطرق أقرب ما تكون إلى المزاجية بعيدا عن الاستناد إلى قرارات جادة وموضوعية./." يستفاد من كلام الناقد نور الدين صدوق أمران اثنان، أولهما أن الرقيب لم يمارس مهمته القرائية التي تسعى إلى استباق أي أثر يمكن أن يحدثه المنتج الثقافي في الجمهور، وثانيهما أن المنع كان شفاهيا- عبر الهاتف-، ولم يكن قرارا رسميا مكتوبا، كما ينبغي أن يحدث، حيث أمر الرقيب بعدم إعادة طبع الرواية، علما أن ذلك حدث بعد ما بِيعت منها أكثر من 25 ألف نسخة. وهو الأمر الذي وصفه صدوق بالمزاجية.