"إن سلوك الإنسان هو أكثر ما يدل على سياسته" إن المنخرط الحزبي الذي تكلمنا عنه في المقال السابق، والذي أشرنا إلى مدى إضعافه في العملية الحزبية، هو نفسه قد يتحول إلى مصدر تهديد لحسن سير وإدارة الحزب، خاصة عند ولائه المطلق وبشكل أعمى للقائد. قد يكون طبيعيا أن تعرف الأحزاب ما يسمى بالتكتلات واللوبيات، أو الجماعات الموالية للزعيم، أي تلك القوة البشرية التي تتشكل نتيجة مصالح متقاطعة بين هؤلاء المنخرطين والقائد الحزبي، غير أن غير الطبيعي، هو حين يحول القائد الحزبي تلك الفئة إلى جماعات انتهازية، وقوة ضغط تحت الطلب يستعملها متى شاء، مهما اختلفت مسمياتها كالمقربين أو الداعمين للقائد، فيجيشهم لمواجهة من يختلف معهم، تارة بدعوى الدفاع عن الشرعية، وتارة أخرى باسم الدفاع عن وحدة وقيادة الحزب. لذلك نجد الزعيم يوظف هذه الجماعات كثيرا لمجابهة مخالفيه، وحتى الاستهزاء المقصود بهم، للحط من قدراتهم وحجمهم السياسي بدعوى جهلهم بالمعطيات وعدم تمكنهم من المعلومات، فيتحول الحزب إلى دائرة تنظيمية أو قبلية مغلقة لا يمكن اختراقها، تتحكم فيها عصبة بشكل طائفي من الموالين للقائد، ثم تبدأ الحملة من طرف هؤلاء ضد الخارجين عنه، فمن جهة يتهمونهم بالضعف في الدفاع عن مبادئ الحزب وعدم القدرة على إدارة مهامهم بالحزب، ومن جهة أخرى بعدم وجود دعامات شعبية وراءهم، وغيرها من الأوصاف القدحية. غير أنهم هم أنفسهم مع أول بوادر للصراع المصلحي وسط هذه التكتلات الموالية للقائد، يتطور الخلاف حين تتناقض هذه المصالح، أو حتى حين يختل ميزان القوى، فتخرج الفضائح إلى العلن، وقد ينفصل البعض عن القائد ليكون تكتلا آخر تحت اسم التيار الجديد أو التيار الإصلاحي، وإذا اقتضى الأمر تأسيس حزب جديد، بينما يجهد القائد نفسه من أجل إقناع ما تبقى من أولئك المنخرطين معه بدعوى أن مصالحهم ستستمر مادام هو في موقعه، فيظل القائد تارة يدخل في وساطات، وتارة يهدد بوضع حد لتلك المصالح الفئوية، لضمان وحدة عصبيته التي تتداخل فيها ليس فقط، المصالح الذاتية أو العلاقات القبلية، بل حتى تلك العلاقات الخاصة البعيدة عن الحسابات السياسية، والتي يتم طبخها بالليل، غير أن أبناء الليل السياسي عندما تنتهي مؤامرتهم، فإن عطالتهم السياسية تجعلهم يتآمرون هم أنفسهم على بعضهم البعض. وأما فيما يخص الأحزاب التي توصف ب"الإدارية" أو غير الجماهيرية، فمنطق الولاء فيها يتشكل على أسس أخرى، حيث تجد أن التزكيات الانتخابية واللوائح الوطنية النسائية والشبابية، وانتخابات الجماعات الترابية والجهات والغرف المهنية، باتت أكبر مصدر لهيمنة القائد، بل في أحايين كثيرة تكون أفضل مصدر لثراء بعض القادة ومن يدور في فلكهم، بعد ما حولوا تلك الأحزاب إلى شركات مالية تنتج التزكيات وليس السياسات. ومادام هؤلاء القادة من خلال وضعهم هم المخاطبون الرسميون للدولة، فغالبا ما يعدون الموالين لهم بإمكانيات وهمية لمساعدة الدولة في إدارة شؤونها، أما المعارضون له داخل الحزب فيصفهم القائد بالفاشلين ومصدر القلاقل، بل يصف بعضهم في أقصى الحالات بكونهم خطرا على الدولة مادام هو وحده الذي يدعي قبول جهاز الدولة له، بل يدعي أنه ممثلها الرسمي في الحزب، في حين أن هذا النوع من القياديين والموالين الدغماتيين لهم، هم في حقيقة الأمر الأكثر خطرا على الدولة، وعلى السياسة ككل. إن هذه الوضعية وهذه الثقافة التي باتت تعيش عليها الأحزاب السياسية، هي سبب فشلها في استقطاب منخرطين حاملي المشاريع الفكرية التي قد تطور العملية الحزبية، ومن تم تطور الدولة، في مقابل سيطرة أولئك العبثيين النفعيين الذين يأكلون من بقايا ما يسقط من جراب القائد، ويضعون ألسنتهم وذكائهم في خدمة مؤامراته. إن الأحزاب التي هي جزء من الدولة، لم تعد قادرة على الاستمرارية في ظل هذه الوضعية، لأن المجتمع يطرح أسئلة كبرى يجب الاجتهاد لإيجاد أجوبة لها، وتقديم أفكار عنها، بواسطة قيادات حزبية مسؤولة ومنخرطين حزبيين حقيقيين يرفعون ولاءهم لمصلحة الوطن، أما المنخرط الحزبي الذي يرفع ولاءه المطلق للزعيم ليس سوى حالة ظرفية، لكون الولاءات التي تستمر في الزمن هي الولاءات الخالصة لمشروع الحزب، وللقناعات، أما الولاء للقائد لتحقيق المصالح الذاتية، فيظل حامله على استعداد لتغييره متى تغير القائد.