لماذا لم يظهر المجلس الأعلى للأمن إلى الوجود؟ يلاحق هذا السؤال الكثير من المعنيين منذ سبع سنوات، تاريخ الإعلان عن ضرورة تأسيسه. بعد كل هذه المدة، ما يزال السؤال يطرح نفسه. نص الفصل 54 من الدستور على تأسيس المجلس الأعلى للأمن القومي لتدبير الأزمات بالمملكة، ليصبح بمنطوق دستور 2011 هو المخول بتنفيذ السياسات الأمنية والتشاور في شأن استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي، لكن هذا المجلس الذي يترأسه الملك شخصيا وبعد مرور سبع سنوات، لم يدرج في أجندة المخطط التشريعي للحكومة التي استنفرت تنزيل الدستور، دون أن يكشف عن الأسباب الحقيقية لذلك. قبل ست سنوات من الآن، شرعت لجنة بوزارة الداخلية ترأسها الوالي محيي الدين أمزازي، في إعداد تصور أولي للمجلس الأعلى للأمن، إلا أن عملها اختفى وبقي مصير هذه المؤسسة معلقا. وبحسب مصدر مطلع، فقد "أقبر تقرير أمزازي بسبب اعتراض جهات عليا على طريقة إعداد مشاريع القوانين، والسماح بوضع ملفات أمنية حارقة بين يدي المدنيين القادمين من الأحزاب، لأنها كانت دائما تُحاط بسرية تامة". " اليوم24″ استطلعت آراء الباحثين والمهتمين، حول الأسباب الحقيقية التي تعرقل خروج المجلس الدستوري إلى العلن؟ وتساءلت معهم هل هذا التأخر المرتبط بوجود صراع خفي بين الأجهزة الأمنية الممسكة بخيوط الأمن القومي، هو الذي يعرقل الوصول إلى توافق مبدئي حول المشروع النهائي لمشاريع القوانين المرتبطة بهذه المؤسسة الاستراتيجية التي تقع في صلب إدارة الدفاع الوطني، أم إن الأمر مرتبط بهواجس لدى جهات ترى في النخبة السياسية أنها غير مؤتمنة وناضجة لاستيعاب أسرار الدولة، التي ينبغي أن تبقى اختصاصا حصريا لمؤسسات أمنية نافذة أصبح لها صيت عالمي. أسرار.. وأسرار رشيد لزرق، الباحث في القانون الدستوري، يعتقد أن من طبيعة القرارات الأمنية أنها تحظى بتكتم شديد، وتظل مصادرها محاطة بدرجة عالية من السرية، ولا يمكن معرفة كيفية صناعتها أو تداولها، خصوصا في ذروة تدبير الدولة لأزماتها سواء الداخلية أو الخارجية، والحال أن هذا المجلس سيكون فضاءً يسمح بمعرفة الأسرار والضوابط التي تخضع لها القرارات الأمنية الاستراتيجية والحساسة، التي كانت إلى وقت قريب تتخذ داخل المؤسسة العسكرية والأمنية بعيدا عن الأضواء الكاشفة وفي زوايا ضيقة، ومن تم، فإن من شأن إحداث مجلس الأمن أن ينهي احتكار المؤسسات الأمنية للمعلومات وهذا ما لا يمكن أن يتم المغامرة به. وخلافا لباقي النصوص التي تهم إحداث المؤسسات الدستورية، يكشف لزرق أن النص الدستوري، المحيل على إحداث المجلس الأعلى للأمن، لم تتم الإحالة فيه من لدن المشرع على قانون تنظيمي يحدد فلسفة التنزيل بالنظر إلى طبيعتها الحساسة وتعلقها بالأمن القومي للدولة المغربية. بل اكتفى المشرع بالتنصيص على تركيبة المجلس وترك قواعد تنظيمه وتسييره لنظام داخلي سيصدر لاحقا بعد التئامه. على خلاف ما ذهب إليه لزرق، فإن محمد شقير، الباحث المهتم بالشؤون الأمنية، يؤكد على أن إحداث هذا المجلس مرتبط بالزمن السياسي، فهو ليس المجلس الوحيد الذي تأخرت مأسسته، وعدم ظهوره للعلن، بل إن الأمر ينطبق على مجموعة من الهيئات التي تم التنصيص عليها في دستور 2011، ولم تخرج إلى حيز الوجود. إلا أن شقير يرى بأنه ليتم تشكيل هذا المجلس، لا بد من اتخاذ نوعين من التدابير، أولها تدابير هيكلية تضع التصور القانوني والتنظيمي، والذي يمكن أن يحدد تداول المعلومة الأمنية وسط هذا المجلس، فعلى الرغم من أن الدستور يكشف عن الشخصيات التي ستنضم إليه، لكن المسألة مرتبطة أكثر بتحديد طبيعة الأدوار التي ينبغي أن تقوم بها المؤسسات الأمنية وحتى الشخصيات السياسية، لأن هناك العديد من الأجهزة التي تتداول المعلومة، فالدرك الملكي له أجهزته الأمنية والجيش ومديرية الأمن والاستعلامات العامة، كل هذه المؤسسات لها أشكال وتدابير وعقليات وتراكمات مختلفة، وهو الأمر الذي يشكل صعوبة في نظر شقير، وضع تصور دقيق لتحديد كيفية اشتغال هذه الأجهزة. ويمضي الباحث في الشؤون الأمنية، في كشفه عن الأسباب الحقيقية التي تعرقل ظهور المجلس الأعلى للأمن، ليقول إنه على الرغم من إسناد مهمة إدارة الأمن الوطني ومديرية مراقبة التراب الوطني لشخصية أمنية واحدة، فإن هذا المعطى يكشف بأن هناك توجها لمركزة المعلومات الأمنية وإحطاتها بسرية تامة، إلا أن شقير لا ينفي أن إحداث المجلس الأعلى للأمن يحتاج إلى المزيد من الوقت والترتيبات، وما يهم الدولة هو هل الشخصيات التي ستحظى بعضوية هذا المجلس دستوريا، لها القدرة على المساهمة في وضع الاستراتيجية الأمنية، أم إنها ستحضر بصفة استشارية؟ وكيف يمكن لرئيس الحكومة، الذي يمتلك صلاحيات أمنية وليس له إشراف مباشر عليها، أن يساهم بفعالية؟ وكيف لرئيسي البرلمان اللذين لا يمتلكان هذه الصلاحية الأمنية أن يساهما بدورهما في وضع هذه الاستراتيجية، ومن ثم، فإن هذا التأخير مرتبط بتحديد طبيعة مشاركة عدة شخصيات سواء الأمنية، أو البعيدة عن هذا المجال، والجواب عما هي حدود مشاركتها؟ في جانب آخر، يرى رشيد لزرق، الباحث في القانون الدستوري، أن الرغبة في تداول المعلومة الأمنية بتكتم شديد لن يعرقل ظهور المجلس الأعلى للأمن، لأن التركيبة المتنوعة للمجلس ستسمح له بالتفاعل أكثر مع مختلف وجهات النظر للوصول إلى تقديم توصيات تهم تدبير الأمور التي تهم الأمن القومي، وفق مقاربة تشاركية متعددة الزوايا ولن تبقى المعلومة الأمنية رهينة لرؤية أحادية في تدبير الملفات الأمنية وبلورة استراتجيات الأمن القومي، بحيث سيكون هذا المجلس مؤسسة يتفاعل فيها قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية مع المدنيين من السياسيين، وسيتمكنون من دراسة جوانب جد حساسة، غايتها تحقيق الفاعلية الأمنية وإدارة الملفات الحساسة وتدبير الأزمات. وكشف لزرق أن المنصب المفتاح للمجلس الأعلى للأمن، سيكون منصب الأمانة العامة، بحيث سيتولى الشخص الذي سينصب في هذا المنصب المهام الإدارية واليومية للمجلس ويتولى الربط والتنسيق بين مختلف مكونات الممثلة داخل المجلس، سواء ذات العضوية الرسمية أو الاستشارية، وهو الأمر الذي يفرض مواصفات دقيقة ينبغي أن تتوفر في بروفايله، وهل سيكون أمنيا أم عسكريا؟ إلا أن المتحدث يعتقد جازما أنه لم يعد ممكنا الفصل بين الأمن الوطني والدولي، ولم يعد ممكنا أن تستمر النظرة إلى مفهوم الأمن الإقليمي من دون مراجعات يجب أن تتجه عموما نحو مأسسة الأمن القومي للمملكة، في أقرب فرصة ممكنة، بالنظر إلى التحديات التي تجعل إخراج هذه المؤسسة الدستورية في الوقت الحالي مستعجلا بعيدا عن جميع التجاذبات سواء الوطنية أو الدولية، لأنها صراعات قد تؤثر على طبيعة المجلس وتحيد به عن المسار الذي وضع من أجله. شقير وهو يكشف لنا بعضا من خفايا تأخر خروج المجلس الأعلى للأمن إلى العلن، يشدد على سؤال من هي الشخصية التي لها الدراية الكافية لكي تترأس المجلس الأعلى للأمن؟ وما أهمية وإلحاحية تشكيله أصلا، في ظل وجود مجموعة من الشخصيات الأمنية التي تقود أجهزة أمنية أصبح لها سمعتها العالمية؟ والتي ترى أن إحداثه يمكن أن يعطل عملها ويجعلها مضطرة إلى إشراك أعضاء آخرين في مجال هو من طبيعيته أنه محاط بالسرية والتكتم، ليخلص في ختام تحليله بأن الظروف السياسية لم تنضج بعد لإخراج هذه المؤسسة الدستورية إلى حيز الوجود، والبحث عن الشخصية المناسبة لرئاسته. هل هناك حاجة؟ هذه الخلاصات التي يؤكد عليها شقير، تختلف عما يذهب إليه عبدالرحمان المكاوي، الخبير العسكري والأمني، حين يرى بأن الحاجة إلى تنزيل الفصل 54، قد تم تجاوزها بالحركة النشيطة لمختلف المؤسسات الأمنية التي تُعنى بتحديد الاستراتيجيات المختلفة لضمان الأمن القومي الداخلي والخارجي، وتدبير مختلف الأزمات كما نص عليها الدستور. ويتساءل هل أصبحت هذه المؤسسة ضرورة دستورية ينبغي تنزيلها؟ وهل النخبة السياسية قادرة على التأقلم مع أسرار الدولة؟ ليوضح لنا أن التأخر يفرض تفكيرا طويلا من المشرع، لتحديد المكونات التي ينبغي أن تكون على علم بالاستراتيجيات الأمنية وتكتيكات الدولة لمواجهة كل التهديدات والمخاطر. من هنا يتوقع المكاوي بأن السيناريو، الذي يدار في دهاليز المشرع المغربي، سيكشف لا محالة عن تركيبة هذا المجلس بناء على تنزيل الفصل 54 من الدستور، إذ سيتم تقسيمها إلى شطرين، كما هو معمول به في الولاياتالمتحدةالأمريكية. الشطر المقتصر على رئيس الدولة ورئيس الأمن القومي ووزير الداخلية والخارجية وضباط الأمن المعنيين بالأمن الداخلي والخارجي، مع إمكانية إشراك شخصيات أخرى في مرحلة ثانية، لتدبير الأزمات التي تواجه البلاد، وهذا لا يعني عدم ثقة الدولة في نخبتها السياسية، لكنها رغبة في استصدار القوانين المؤطرة للمجلس القومي للأمن، بمكانيزمات وآليات ستخضع لها هذه المؤسسة الأمنية الحساسة على مراحل متفاوتة. إلا أن المكاوي يعود ليؤكد لنا بأن هناك تخوفا واضحا من المؤسسات الأمنية القائمة، إذ يرى في إخراج هذا المجلس إلى حيز الوجود، عرقلة لمهام واختصاصات العديد من المؤسسات العسكرية والأمنية بكل أطيافها التي تعمل في الاتجاه نفسه، والتي ترى نفسها أكثر قدرة من غيرها على الرد على المخاطر والتحديات وتدبير الأزمات، ومن ثم، فالدولة تبدي صرامة كبيرة في إعداد مشاريع القوانين لن تسمح لأي أحد أن يمس بالأمن القومي للمملكة ويخترق جدار السرية الذي يحيط بالملفات الأمنية، التي تدار عادة بعيدا عن أنظار السياسيين.