سبقت الإشارة في مقال سابق إلى أن المشرع الدستوري عمل بشكل مفاجئ على دسترة 10 هيئات وطنية مستقلة، وضعها دفعة واحدة في سلة واحدة، بجمعها في الباب الثاني عشر تحت أطول عنوان في الدستور بشكل غير متجانس:»مؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة الديمقراطية التشاركية»، وإن عملية الدسترة هذه عملية محمودة توحي بأن المشرع يروم ضمان أكبر قسط من الاستقلالية لهيئات الحكامة الجيدة، بإخراجها من وصاية المؤسستين التنفيذية والتشريعية، عاملا على تمتيعها باستقلال إداري ومالي ، لكونها تضبط قطاعات حيوية استراتيجية وحيوية وذات حساسية، مبعدا إياها عن أساليب الدولة التقليدية،وخاصة من طرف الإدارة المركزية، التي يطالب الرأي العام مراجعتها بتمتيعها بالنزاهة والشفافية والجودة والنجاعة واحترام القانون دون تمييز بين المرتفقين العموميين والخواص، بل بعيدا حتى عن رقابة البرلمان بغرفتيه تحصينا لبعض القطاعات الحيوية من ضغوط لوبيات مصلحية قد تدافع عنها مجموعات ضغط في الغرفة الثانية، وتحصينا لها من مد وجزر المشهد السياسي الحابل بالنزعات الحزبية والسياسية الضيقة، وخاصة في مجالات استراتيجية، من قبيل الاتصال السمعي البصري والقطاع المالي والاقتصادي وقطاع البورصة والمنافسة والطاقة الكهربائية والاتصالات واليقظة والأمن الخصوصي ومحاربة الرشوة وقضايا حقوق الإنسان وما شابهها. لقد صنف المشرع الدستوري الهيئات العشر أعلاه إلى ثلاثة أصناف: أسند في الصنف الأول لأربع منها مهمة حماية حقوق الإنسان (المجلس الوطني لحقوق الإنسان والوسيط ومجلس الجالية المغربية بالخارج ثم الهيئة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز)، وأسند في الصنف الثاني لثلاث هيئات منها، اصطلح عليها بهيئات الحكامة الجيدة والتقنين (الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري ومجلس المنافسة ثم الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها)؛ وختم المشرع في صنف ثالث لثلاث هيئات مهمة النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية (المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي). لقد ارتبك المشرع الدستوري في عملية دسترة هيئات الحكامة الجيدة ، حيث سارع إلى ما تعارف عليه سابقا،بدسترة هيئة وطنية على الورق دون أن يكون لها وجود على أرض الواقع، وكذا حينما تفادى إدراج كل من مؤسستي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمجلس الأعلى للحسابات ضمن هذه الهيئات الحكامية الجيدة، علما أنها لا تختلف عن المؤسسات العشر لا من حيث أسباب النزول ولا من حيث التأسيس أو من حيث الشخصية المعنوية المتمتع بها، وما يترتب على ذلك من استقلال إداري ومالي، وطبيعة علائقها بكل من البرلمان والحكومة، كما أننا لا نزال نتساءل عن سبب عدم إدراج المجلس الأعلى للأمن، ضمن هيئات الحكامة الجيدة المنصوص عليها في الباب الثاني عشر، بصفته هيئة استشارية في مجال استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وتدبير حالات الأزمات، والسهر أيضا على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة. إن هذا الارتباك الدستوري لا شك سينعكس فيما بعد على تنزيل مختلف هذه المؤسسات على أرض الواقع، لكونها تتقاطع في العديد من النقط وتختلف عن بعضها البعض كذلك في الصلاحيات والأهداف ومساطر العمل، ككون البعض منها له دور استشاري واقتراحي فقط، كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ومعظم هيئات الحكامة المنصوص عليها في الباب الثاني عشر، بينما البعض الاخر له دور اقتراحي واستشاري ورقابي وزجري إضافة إلى سلطة الضبط التي تصدر بموجبها قرارات عامة في مستوى القواعد القانونية، من بينها الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بصفة خاصة على سبيل المثال، دون إغفال فارق أساسي يتجلى في أن البعض من هذه الهيئات يراكم تجربة ناجحة في ضبط القطاع، بينما البعض الآخر إما انه يراكم تجربة غير مشرفة، لم ترق إلى المستوى المطلوب، كما هو الشأن في النهوض بأوضاع الجالية المغربية بالخارج ، كما أن البعض لا يزال حبرا على ورق، يتطلب سنوات أخرى من أجل إخراجه إلى حيز الوجود، كمجلس الأسرة والطفولة والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي والهيئة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز. لا غرابة في أن أصواتا بدأت تبرز من حين لآخر من أجل تنزيل مؤسسات وهيئات الحكامة الجديدة ومراجعة الهيئات الحكامية القديمة، وهو مطلب عادل كلما كان يروم فعلا النهوض بهذه القطاعات الاستراتيجية بشكل أنجع، لكن يبدو أن الأمر يتطلب بعض الوقت لاستنضاج المنهجية السليمة لضبط حسن سير أشغال هذه الهيئات والمؤسسات، فليس لكون المشرع عمل على دسترها يتعين تنزيلها على أرض الواقع بسرعة وارتجال، فالتدوين الدستوري شيء والتنزيل العملي لها شيء آخر، وخير مثال على ذلك فرنسا التي لها تجربة ثلاثة عقود أو أربعة، ولا تزال تتخبط في سير عمل حوالي أربعين هيئة وطنية مستقلة، ناهيك عن بعض البلدان الاسكندنافية التي لها ما بين مائة ومائتين هيئة ومؤسسة وطنية مستقلة، وهدف الدولة الأساسي من ورائها هو الكيف لا الكم ن مما يتعين معه التؤدة والاتزان في إحداث هذه المؤسسات، والعمل على جمع كل هذه الهيئات الوطنية سواء الواردة في الباب الثاني عشر من الدستور أو خارجه في مناظرة وطنية من أجل إرساء نموذج دستوري ومنظومة قانونية موحدة ومشتركة، وهو ما تصبو إليه فرنسا اليوم، تكريسا وتحصينا لما بينها من قواسم مشتركة ، وتقليصا لما بينها من فوراق شكلية وجوهرية، وذلك في إطار التجربة الفتية لبلادنا في هذا المجال، خدمة لهذا النوع الجديد من المرافق الحيوية الاستراتيجية التي يلح المغاربة على الاستفادة منه في إطار المساواة والإنصاف وتكافؤ الفرص بعد عقود من التمييز والريع ونظام الامتيازات.