تزامنا مع صدور الترجمتين الإنجليزية والإسبانية لكتاب "تاريخ المغرب: تحيين وتركيب"، عدنا إلى الباحث محمد القبلي، مدير المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، حاملين بعض الأسئلة حول هذا العمل، فيها بعض الجدة والراهنية، وكذا الاستشكال الرامي إلى الإحاطة بمرامي هذا المشروع، في زمن التحولات السياسية والاجتماعية بمغرب القرن الحادي والعشرين.
* في الآونة الأخيرة، أصدرتم الترجمة الإنجليزية لكتاب "تاريخ المغرب: تحيين وتركيب"، مما يعني أن هذه الترجمة تمثل استمرارية للعمل الأصلي الصادر بالعربية قبل زهاء سبع سنوات. وبالتالي فإن هذا العمل بترجماته المختلفة يبدو وكأنه يعكس إرادة سياسية. ما هي طبيعة هذه الإرادة؟ ** أول ما ينبغي أن نشدد عليه هنا أننا لم نفتأ نتحاشى الوقوع تحت تأثير ما يقصد عادة بالسياسة عند تأليف هذا الكتاب تبعا لمقتضيات العمل التاريخي، وذلك حتى لا يتدخل الانتماء الشخصي في تلوين الأحداث القريبة أو توجيه الوقائع البعيدة كذلك. نحن نعمل هنا ضمن مؤسسة أكاديمية ونحرص على أن يظل عملنا عملا أكاديميا صرفا. ما يؤكد هذا أن الكتاب الأصلي قد جاء نتيجة تظافر جهود ما لا يقل عن خمسين باحثا من مختلف الحساسيات المتواجدة بالبلاد، ومنهم من لا ينتسب لأي حساسية على الإطلاق. انكب هؤلاء الزملاء بكامل التجرد على وضع مؤلف حول تاريخ المغرب باللغتين العربية والفرنسية ضمن صيغتين اثنتين متوازيتين في الوقت ذاته. وقبل الشروع في العمل، كان لزاما علينا أن ننبه الجميع إلى ضرورة التقيد بقيود البحث العلمي، وعلى رأسها التمسك بالموضوعية واعتماد الوثائق بعيدا عن أي اعتبار إيديولوجي أو توجه ذاتي شخصي. ولكي نحمي أنفسنا من أي انزلاق أو تأثر، ارتأينا أن نعتمد العمل الجماعي القائم على المكاشفة والشفافية الصارمة. وهكذا، فأثناء اللقاء المخصص للافتتاح– وهو لقاء دام ثلاثة أيام-، توزعنا عبر ثمانية أوراش وكوَّنَّا ثماني فرق، شارك فيها كل من المؤرخ والجغرافي والأنثروبولوجي والمعماري والفنان، وذلك بقصد التفتح على مجمَل العلوم الإنسانية والاستفادة مما يعرف بتداخل العلوم. هذه المشاركة الواسعة تنتفي مع ما أشرتم إليه في مطلع هذا الحوار، من أن القضايا الواردة في المؤلف قد خضعت لما يقصد بالسياسة أو تأثرت بمؤثرات ذاتية أو ظرفية. صحيح أن هنالك جوانب متعلقة من الوجهة التاريخية بالحياة السياسية، وهو شيء لا بد من دراسته كمكوِّن من مكونات الوضع التاريخي المتطور. ومعلوم أن لهذه الدراسة شروطا معينة تقيدنا بها كما تقيدنا بالشروط المتصلة بتناول المكونات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية بوجه عام. وعليه، فإن هذا التوجه قد ضمن القيام بمقاربة منهجية دقيقة أراحتنا وأراحت المؤلَّف نفسه من كل تشويش لحظي أو تأثير آني، ومن هنا أمكننا أن ننجز قراءة جادة قوامها الموضوعية والاحترافية كما تشهد بذلك الدراسات التقويمية لعملنا، وهي دراسات منشورة في بعض المجلات المتخصصة بعد أن تفضل بها بعض كبار المؤرخين الأجانب. وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أن الأمر يتعلق في الوقت ذاته بقراءة مغربية لتاريخ المغرب، أي أنها قراءة جماعية أنجزت من الداخل لأول مرة، وذلك نظرا لتعدد القراءات من الخارج ودور البعض منها في تسريب الصور النمطية والأحكام المسبقة الشائعة منذ قيام الحماية إلى يومنا هذا. لقد توخينا أن نصحح هذه التسريبات، لكن ليس باسم العاطفة أو انطلاقا منها، وإنما بالارتكاز على المعرفة واعتماد الوثائق، على أننا لم نتجاهل السلبيات ولم نسمح لأنفسنا بطمس الاعوجاجات عند وجودها، فلم نتجنب المناقشة والتصحيح عند الضرورة. ومن أهم الأمور التي تجددت بفضل هذا التوجه قضية التحقيب التاريخي الخاص بالمغرب، وهو تحقيب تمت مراجعته باتفاق المشاركين جميعا من غير استثناء، على اعتبار أن التحقيب الجاري به العمل إنما هو تحقيب أوروبي مطابق للواقع الأوروبي. فأوروبا تضع لنفسها خطا فاصلا في منتصف القرن الخامس عشر عند سقوط القسطنطينية في يد الأتراك، وتعتبر أن هنالك فترة تاريخية انتهت تماما لتبدأ فترة جديدة أخرى هي فترة النهضة الأوروبية والاتجاه نحو العصر الحديث. أما بالنسبة إلينا، فواضح أن سقوط القسطنطينية لم يكن له نفس الأثر لا على مستوى الواقع ولا على مستوى التوجه والمصير. ما يقابل هذا الحدث كخط فاصل بالنسبة إلينا هو سقوط مدينة سبتة ودخولها في حكم البرتغال، حيث كان هذا السقوط بمثابة إعلان عن بداية احتلال الأجانب الأوروبيين، عبر استحواذهم على ثغر حيوي من ثغور المغرب. كان ذلك سنة 1415 للميلاد. وبالتالي فإننا ارتأينا أن نجعل من هذه السنة نفسها سنة مفصلية تقابل سنة 1453 بالنسبة للأوروبيين. وعلى نفس المنوال، أمكننا أن نحدد عددا من الحقب والفترات الخاصة بواقعنا المجتمعي وتاريخنا المحلي، وذلك انطلاقا من الأحداث التي أثرت في الساكنة على مستوى الذهنية والحضارة والواقع المعيش. * بالنسبة لأوروبا، يرتبط تأريخ بداية الزمن الحديث بظاهرة الأنوار والثورة الصناعية. أما بالنسبة للمغرب، فإن هذا التحقيب غير ممكن، على اعتبار أن المغرب لم يحتك بالأنوار والثورة الصناعية إلا مع ظهور البوادر الأولى للاستعمار في القرن التاسع عشر. إلى أي حد يصح هذا الاعتبار؟ *** هذا هو الواقع. نحن لم نتأثر فعلا بالثورتين الفرنسية والصناعية، لأن المغرب انكمش على نفسه منذ أن أصبحت السواحل محتلة؛ أي أنه أصبح يعرف نوعا من الانغلاق فتحجرت مؤسساته. صحيح أنه كانت هنالك محاولات إصلاح متكررة- وهذا مفصَّل في الكتاب-، لكن الملاحظ أن المغرب قد اعتبر أوروبا دار كفر لا علاقة له بها من حيث العمق الحضاري، وأنه يمثل دار الإسلام بالمنطقة، وعليه أن يتبنى إصلاحات تنهل من معين الديانة الإسلامية لا غير. وبذلك ظل المغرب منعزلا عن المحيط المجاور إلى أن وقع الاحتلال. وبالتالي فقد يصعب الحديث عن تبني بعض مظاهر الحداثة بالمغرب قبل دخول الفرنسيين والإسبان. لقد أدخلت فرنسا بعض المستجدات الحديثة الناتجة عن مسارها المتطور، كالطرق المعبَّدة والسكك الحديدية والموانئ المرصفة وبعض الصناعات. وهكذا تمكن المغرب من تدشين طفرته نحو الحداثة من غير شك. أما قبل الحماية، فمن المحقق أنه ظل جامدا يجتر نفسه، وهو أمر نعترف به في الكتاب ولا ننكره أو نحاول تزيين ما لا يمكن تزيينه. * هذه أمور واعترافات جرت على الكتاب عدة انتقادات، أليس كذلك؟ *** لم يكن بإمكاننا أن نقرر وجود ما ليس بموجود لأننا مقيدون بالوثائق. * في نظرك، لماذا هذا المشروع؟ ما هي البواعث والخلفيات التي أملت مشروع إعادة النظر في تاريخ المغرب؟ وما هي الشروط المعرفية والاحتياطات الموضوعية التي تم اعتمادها عند إنجاز هذا العمل؟ *** يمكننا أن نطرح السؤال المتعلق بالمشروع نفسه ضمن سؤال آخر أوسع فنتساءل: لماذا تم تأسيس المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب؟ والمفروض أن لصاحب الفكرة الذي أمر بتأسيس هذا المعهد وأعطاه الاسم الذي يحمله الآن، أسبابا مضبوطة ودوافع معقولة يمكن التكهن بها من الناحية النظرية على الأقل. ذلك أن المغرب بعد تحرره من الحماية قد قضى زهاء نصف قرن من الزمن في خوض التجارب المتصلة بتكوين الأطر وإقامة المؤسسات ومسايرة العصر جهد المستطاع، فتأثرت بذلك المميزات الأساسية التي طبعت هويته التاريخية وأصالته الأصيلة بفعل متطلبات التكيف وإكراهات التطور والنماء. وبالتالي، فلربما برز الوعي آنئذ بضرورة الحد من الابتعاد عن هذه الأصالة عن طريق العودة إلى التاريخ، باعتباره من أنجع الوسائل الثمينة بتحصين الهوية الجماعية والحفاظ على الشخصية الوطنية. من الجائز جدا أن يكون هذا العامل سببا حاسما في أخذ القرار المتعلق بتأسيس هذا المعهد حسبما يبدو، ومن هنا جاءت فكرة تأليف الكتاب الذي نحن بصدده على كل حال. * لكن كيف تم التجاوب مع هذا الدافع بالذات؟ وكيف واجهتم العمل من حيث هو؟ *** من المعروف أن انطلاق كل عمل أو أطروحة يقتضي دراسة الوضع الخاص بموضوع الدراسة أولا وقبل كل شيء. وبالتالي فنحن بدأنا بالتعرف على الوضع الحالي لتاريخ المغرب كنتاج بيبليوغرافي ورصيد معرفي. وسرعان ما تبين لنا أن هذا الرصيد يتكون في جملته من دراسات تركيبية وأبحاث قطاعية تتخللها مونوغرافيات مستفيضة أحيانا. أما الدراسات التركيبية، فجلها متجاوز وإن كانت قد لعبت دورها حتى الآن، واستفاد منها كل من الطلبة والباحثين على السواء؛ وأما الأبحاث القطاعية والمونوغرافيات، فحديثة العهد في الغالب، لولا أنها لم تدمج حتى الآن في التصور العام لتاريخ المغرب، فكان علينا أن نعمل على سبك أبرز نتائجها ضمن عملية تركيبية مُحَيَّنَة، وذلك بهدف إبراز الخيوط الناظمة للأحداث، مع استحضار البعد المجالي وتخصيصه بفصل تمهيدي من شأنه أن يسمح بالنفاذ إلى الروافد الطبيعية لهذه الأحداث. والخلاصة أننا هدفنا في هذا المؤلف إلى الجمع بين التركيب والتحيين وصياغة قراءة مغربية لمختلف الأطوار التي مر منها المغرب عبر تاريخه الطويل. وتجدر الإشارة إلى أن حرصنا على مغربية القراءة ليس معناه الاستغناء عن القراءات الأجنبية، وإنما العكس هو الصحيح. ويكفي أن نرجع إلى البيبليوغرافيا المثبتة في كل فصل من الفصول لنلاحظ أننا تعاملنا مع أبحاث محررة بمختلف اللغات المهتمة بالدراسات المغربية، كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية. يضاف إلى هذا أننا لم نتعامل مع التاريخ بمعناه التقليدي المنغلق، وإنما انفتحنا على المقاربة الآخذة بمنهج التداخل العلمي، فجمعنا بين التاريخ والجغرافية وأفدنا من اللسانيات والمعمار والأنثروبولوجيا، ما سوف يسمح بالاقتراب من الواقع التاريخي المتعدد الأبعاد والحيثيات. * إلى أي حد استطاع هذا المؤلف تخليص تاريخ المغرب من محنَّطاته؟ بمعنى آخر، إلى أي حد استطاع المشاركون في هذا العمل غربلة التاريخ من الوقائع التي تحجب "الحقيقة" التاريخية وتصفِّيه من الصور النمطية والصور الزائفة وأحكام الأقوياء؟ *** أعتقد أنه ليس من السهل أن نبت في القضية باقتضاب وبالسرعة المفترضة في استجواب كهذا. فمعلوم أن لكل تاريخ جوانبه المطموسة. ومعالجة هذه الظاهرة تتم انطلاقا من تحديد نقط الظل وتشخيص الجوانب الملتبسة التي قد تشوب لحظة تاريخية معينة. وحسب نوعية المشاكل المطروحة والمصادر المتوفرة، فإن بالإمكان مقاربة دوافع الطمس واستنتاج الاحتمالات المقبولة منطقيا، وإلا فنحن نكتفي بالتساؤل والافتراض بغية إثارة الانتباه لما يترتب على الإشكال ككل. ومعلوم أن للتساؤل أهميته القصوى إن هو طرح كما ينبغي، إذ أن "حسن السؤال نصف العلم"، كما هو متواتر في الأدبيات العربية، وكما هو وارد في الأدبيات الفرنسية مثلا. ومن أبسط ما يمثل ظاهرة الطمس أن بعض المؤرخين القدماء قد دأبوا على تجنب الوقوف عند عمق الدسائس والأسباب التي أدت إلى اغتيال بعض السلاطين، وهي أسباب قد تؤول إلى ما هو أهم من الجوانب الشخصية الخاصة بالضحية وعلاقتها بالفئة المتآمِرة. هنا يلجأ الباحث إلى استنطاق ما هو متوفر من الإشارات والتلميحات على أمل الوصول إلى المؤشرات التي تقف وراء الحدث، وإلا فإن مجرد تعليق الافتراض أو التساؤل كفيل بإثارة الانتباه والدفع إلى المزيد من التقصي. ويكفي أن يتصفح المرء مؤلفنا ليلاحظ ورود مثل هذه الأمور ضمن سياقات تاريخية متنوعة تعاملنا معها بكثير من النسبية والحذر كما تقتضي ذلك المنهجية التاريخية بطبيعة الحال. * إلى أي حد استطاع الكتاب أن يدمج الخطاب الصادر عن المعارضين للسلطة عبر تاريخ المغرب؟ *** الخطاب المناوئ حاضر، وإن لم يكن من الممكن وصفه دائما بالمعارض، خصوصا وأن هنالك واجب النصح للحكام من قبل العلماء والزهاد على الأخص. هذا الالتزام الديني من قبل بعض العلماء ورجال التصوف قد أدى إلى اعتماد الخطاب الإصلاحي وخطاب الشجب السلمي والتأنيب الدَّعَوِي في الكثير من الأحيان. بجانب هذا النوع من التعامل النصوح المتحفظ نسبيا إزاء الحكم والحكام، هنالك خطاب المعارضة الصريحة الهادفة إلى تغيير الوضع القائم مع الدعوة إلى إقامة نظام مخالف إلى حد بعيد. تمثل هذا النمط من المعارضة بصفة خاصة في موقف ابن تومرت وأتباعه من طريقة حكم المرابطين كما هو معلوم. لقد وقفنا عند مختلف هذه المواقف من الحكم، وهي مواقف تدعمها نصوص معاصرة كثيرة على كل حال، ولم يكن لنا أن نتجاهلها لارتباطها المباشر بتطور الدول، ومرورها من طور إلى طور إلى أن تنتهي بالتراجع والأفول. * يتجاوز الكتاب مقاربة إعادة كتابة التاريخ، ويعتمد على إعادة النظر فيه من أجل تقييمه والمصالحة معه، مثلما حدث مع المصالحة مع سنوات الانتهاكات وتقرير الخمسينية وغير ذلك من الخطوات السياسية التي تروم المصالحة مع الماضي. ما قولكم في هذا؟ *** ليس هنالك أي مانع، مبدئيا، من أن يدلو التاريخ بدلوه في هذا النوع من المصالحة، شريطة أن لا يطلب منه مسايرة الرغبات الخارجة عن فحوى الوثائق والنصوص. قد تكون هذه الرغبة واردة لدى بعض الزملاء، وذلك على اعتبار ما تدعو إليه الظروف الراهنة من السعي إلى التصالح مع الماضي. غير أن للتصالح مع الماضي جهات تكلفت بالانكباب عليه عبر عدة مؤسسات مستقلة عن بعضها، منها ما هو رسمي وما هو غير رسمي. وبالعودة إلى الكتاب الذي نتحدث عنه، يمكن لأي قارئ أن يلاحظ أننا لم نتبرَّم من معالجة أبرز الفترات الصعبة، بما فيها الفترة الأخيرة، فتعاملنا معها بكامل الموضوعية، مع اعتماد الوثائق المتوفرة ومقارنتها أحيانا بالشهادات الحية وتصريحات من شهد الوقائع أو شارك فيها. وسوف يقف القارئ على كل هذا في الفصل العاشر المخصص لفترة ما بعد الحصول على الاستقلال بالدرجة الأولى. * ما مدى تحقق الرغبة في تصحيح مختلف أشكال التزوير التي طالت تاريخ المغرب؟ *** كل ما يمكن أن يقال بهذا الصدد أن الطريقة التي اتبعناها في هذا المؤلف، تقوم أساسا على التثبت مما كتب وما قيل حول كل شاذة وفادة؛ وتبقى الكلمة الأخيرة في هذا الصدد للقارئ المتمعِّن والناقد الكفء بالدرجة الأولى. * يلاحظ أن الكتاب لا ينشغل كثيرا بالتاريخ الاجتماعي والثقافي. هل مرد هذا إلى ضعف المصادر التاريخية المتصلة بالموضوع، أم أن هناك تغييبا لهذا الجانب؟ أم أن المغرب لم يشهد تاريخا اجتماعيا وثقافيا يستحق العناية؟ *** من المسلم به أن لكل شعب مخلفات ثقافية ومنجزات فنية وأدبية تخصه وتعكس الكثير من اهتماماته الحضارية المؤسِّسة. فالشعب المغربي كغيره من الشعوب قد أنتج ثقافة متنوعة على امتداد التاريخ، ولم يكن لنا أن نتغاضى عنها أو نطمس الجوانب الموثَّقة منها. ففي الفصل العاشر مثلا، يجد القارئ صفحات طويلة عن المسرح والسينما وعن الإنتاج الأدبي والتراث الشعبي والموسيقى بمختلف تلويناتها المحلية، كالملحون والعيطة والگدرة والطقطوقة والطرب الأندلسي والأحواش مثلا. كل هذه الفنون مبسوطة في الفصل العاشر. وهنالك تناول مفصل آخر للحياة الثقافية بالمغرب إبان فترة الحماية وما سبقها بصفة مباشرة. ومن جهة أخرى، فقد خصصنا الفصل الخامس كله للحياة الاجتماعية والثقافية بوجه عام خلال العصر الوسيط. هذه كلها صفحات مخصصة للتعريف بالحضارة المغربية من مختلف الزوايا. ويجب ألا ننسى أن عنصر الحضارة هذا مندمج في بقية الفصول، وأنه يخترق بالتالي مجمل هذا المؤلف الذي لم يقتصر بتاتا على الحياة السياسية كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنه اهتم في الوقت ذاته بالجوانب الأخرى التي سبق أن أشرنا إليها، كما عرَّف بالرموز الثقافية والشخصيات المؤثرة، من أمثال ابن الخطيب وابن خلدون وابن عاشر والمقري وابن عباد وغيرهم من العلماء والمتصوفة. ثم إننا لم نكتف بالتعريف بأقدم الشخصيات البارزة، وإنما حرصنا أيضا على التعريف بالرموز الحديثة أو المعاصرة فوقفنا عند إنتاج الحسين السلاوي ودور ناس الغيوان ومدرسة الطيب الصديقي وأصالة الطيب العلج، دون أن نهمل التشديد على ما تعرفه البلاد من تنوع في الإنتاج الفني عبر مختلف الأقاليم والمدن. وبذلك نكون قد تجاوزنا ممارسة التاريخ بمعناه الحداثي الجاف، وفتحنا أوراشا متكاملة من شأنها أن تضفي على التاريخ المغربي بعضا مما يستحقه من حيوية وإشعاع. * هل من تقييم لتاريخ الوثيقة نفسها؟ ما هي المراحل التاريخية التي تميزت بالغزارة في إنتاج الوثائق؟ وما هي المراحل التي لم تشهد اهتماما كافيا بالتوثيق؟ *** ارتبط صدور الوثيقة في تاريخنا المغربي بقيام الدولة، إذ أن الحكام وأعوانهم قد أولوا التعريف بالدولة ومشروعية حكمها أهمية ملحوظة؛ أما المناوئون، فكثيرا ما تتعرض وثائقهم للضياع أو الطمس. والفترات الغنية بالوثائق تصادف عادة فترات استتباب الدولة وازدهارها. وهكذا فالوثائق تكاد تكون منعدمة قبل قيام الدولة المرابطية، ثم تتنامى مع الموحدين والمرينيين، لتغيب بشكل لافت في عصر الوطاسيين، نظرا لما لحق الدولة من ضعف وتراجع؛ إلى درجة أن احتلال الشواطئ المغربية قد أدى إلى شبه نكوص كلي على مستوى التدوين. والنتيجة أن التعرف على مجرد الخطوط العريضة للفترة كلها قد أصبح رهينا بالإنتاج البرتغالي والوثائق الأجنبية بوجه عام. من جهة أخرى، يلاحظ أن إنتاج الوثيقة مرتبط ارتباطا وثيقا بالهيأة العالمة. لقد خلف العلماء العديد من الوثائق؛ وأغلب ما وصلنا منها مساير للخطاب الرسمي أو الخطاب الإصلاحي المسالم. أما الخطابات المناوئة فنادرة نسبيا ومنها ما هو متوفر بالدارجة المغربية، كأزجال الشيخ عبد الرحمان المجدوب مثلا، وهي أزجال تتضمن بعض ما نسب إليه ولم يثبت بعدُ أنه من عنده. ومع هذا، فإن ما ورد على لسانه يتطابق في الكثير من الأحيان مع ما ورد في وثائق أخرى. والملحون كالعَيْطة يتضمن إشارات تتعلق بأحداث ووقائع تاريخية، لولا أنها إشارات تظل عامة تعوزها الدقة وينقصها الوضوح في الغالب؛ وبالتالي فهي لا تفيد المؤرخ إلا بصفة تكميلية. * في هذا السياق، يمكن الوقوف عند أهمية دراستين أنجزهما الباحث والمؤرخ عبد الأحد السبتي حول الأمن والعادات، ما قيمة الأدب في إعادة كتابة التاريخ؟ *** الواقع أن جل المصادر التي نتعامل معها أدبية. وبالمناسبة، يجب التنبيه إلى أن الأديب ليس مؤرخا بالضرورة، كما أن للمصادر الأدبية عيوباً ومحاسن. ذلك أن الأديب لا يتقيد دائما بالدقة الكافية ولا يسجل الأحداث إلا من خلال رؤيته الخاصة، وقلما يهتم بضبط التواريخ والحيثيات المتداخلة التي تحدد نوعية الوقائع وطابعها الخاص. ولو عمدنا إلى المقارنة بين الأديب الصرف والفقيه التقليدي، لوجدنا أن هذا الأخير أشبه من غيره برجل القانون المعاصر، وربما بقاضي التحقيق أحيانا. وعلاوة على هذا، فالكل يعلم أن الفقيه الموثق أو الفقيه العدل، ميال بحكم تكوينه ومستلزمات المهنة إلى ضبط تاريخ الحدث ومكان الوقوع وكل ما يحيط بالقضية التي تهمه؛ أما الأديب، فلا يكاد يهتم بكل هذه التفاصيل التي تعتبر أساسية في الممارسة التاريخية. * إلى أي حد استفاد مشروع "تاريخ المغرب: تحيين وتركيب" من مبادرات الدولة الرامية إلى تدارك النقص الحاصل في الأرشفة والتوثيق، عبر إنشاء مؤسسة أرشيف المغرب وتأسيس المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، وكذا مشروع جمع المخطوطات وتتويجه بإنشاء جائزة الحسن الثاني للمخطوطات؟ *** أتمنى أن يأتي اليوم الذي تتظافر فيه مختلف الجهود، لتنكب على مراجعة هذا الكتاب الذي أنجزناه بوسائلنا المحدودة. ونحن لا نشك في أن مثل هذه المبادرة ستسهم في تنقيح محتوى المؤلف وإغنائه، لأن كل عمل تاريخي نسبيي يقتضي المراجعة بانتظام، كي يعاد تحيين بعض نتائجه وتدقق بعض النتائج الأخرى.