على بعد مسافة 50 كيلومترا جنوب مدينة العيون، تنزوي قرية "تارومة" البحرية، هذه البقعة على أطراف حاضرة الأقاليم الجنوبية للمغرب، كانت بالأمس مجمعا لدور الصفيح، حيث يتحد الفقر والتهميش وتنتشر البطالة والجريمة، اليوم، هي أقرب إلى المخيم منها إلى قرية، نصب فيها البحارة وتجار السمك، خياما اتخذوها مسكنا لهم، يعيشون وسط فوضى عارمة، أحد تمظهراتها طريقة انتزاعهم لقمة العيش اعتمادا على مصدر رزقهم الوحيد؛ صيد السمك. نحو "تارومة" وصلت باخرة الصيد إلى الميناء في وقت متأخر من الليل. كانت محملة بأطنان من الأخطبوط. عبد الحميد "اسم مستعار"، بحار أربعيني من أبناء مدينة العيون، خبر البحر وتجارته وصنع لنفسه اسما في وسطه الذي يشتغل فيه، اتصل ليخبرني أن الزوارق رست في نقطة عشوائية تسمى تجاوزا شاطئ "تارومة"، ويطلق عليها الحرفيون مسمى "أفتاس"، عشرات الزوارق تحمل أطنانا من سمك الأخطبوط غير قانونية، تباع لشركات مختصة في معالجة السمك وتجميده توجد بمدينة العيون وخارجها، من خلال انتداب وكلاء من ملاك الزوارق بقرى الصيد، لشراء البضاعة، يقول عبد الحميد مفسرا؛ "نصطاد أطنانا إضافية من الكمية المسموح بها قانونا، فنبيع ما فضل عنها لمالكي زوارق الصيد التقليدي بقرى الصيد المحيطة بمدينة العيون، هؤلاء يستغلون من طرف ملاك شركات تجميد الأخطبوط، الذين يشترون البضاعة قبل ولوجها سوق السمك بثمن بخس، وبالتالي لا تحدث مزايدة بين أرباب الشركات عند عرض البضاعة في السوق، بل يأخذ كل نصيبه الذي اشتراه سلفا". في مدينة العيون؛ تحتكر شركتان اثنتان سوق وحدات تجميد الأخطبوط؛ في حين لم تعد تُمنح اليوم رخص إقامة وحدات التجميد. والحيلة التي تلجأ إليها "المافيات" التي تنشط في هذا القطاع، هي استصدار تصريحات بصيد كميات معينة من السمك باسم زوارق الصيد التي لا تبرح مكان رسوها أصلا في القرى وداخل ميناء مدينة العيون، تلك الكميات هي ما فضل عن "الكوطة" المسموح بها، تهرب سرا وليلا عبر نقاط تفريغ عشوائية ك"الطويجين الأول" و"الطويجين الثاني" على الطريق الوطنية جنوب بوجدور ب150 كيلومترا، إلى سوق السمك، وأيسر السبل لتمهيد طريق مرورها دون مشاكل، توظيف المال واستغلال النفوذ، ابتداء من أول نقطة وهي "الكوشطة"؛ عبارة عن شاطئ عشوائي ترسو عليه الزوارق، تتواجد فيه عناصر المراقبة. وفق المعطيات الميدانية الرسمية والمستقاة من النقابيين والحرفيين، فإن السلطات كلما حاولت القطع مع سياسة غض الطرف وعدم التسامح والتساهل مع الاختلالات التي تشوب القطاع، خرج عشرات الشباب رافعين أعلام جبهة "البوليساريو" وسط مدينة العيون، محتجين ضد السلطات وما قررت، الأمر الذي يدفع المسؤولين إلى التراجع والاستسلام أمام كارثية الوضع، وهذا ما يسم المنطقة بخصوصية تغذي عوامل الفوضى والتسيب والانفلات التي تحيط بقطاع الصيد. سمك مبيض من بين المفاجآت التي أماط الاستقصاء عنها اللثام، استغلال أشخاص من ذوي النفوذ والمال للسمك في عمليات تبييض الأموال، أكثرهم لا يملك رصيدا مهنيا، ولا ينتمي إلى قطاع الصيد البحري. أحد هؤلاء صاحب سوابق عدلية وله ماض في تجارة المخدرات، دأب على شراء آلاف الكيلوغرامات من الأخطبوط، بثمن مائتي درهم للكيلو الواحد، في حين أن ثمنه الحقيقي المتداول في الميناء لا يتجاوز مائة درهم للكيلوغرام الواحد، بل هو ثمن جد مرتفع يتجاوز حتى الثمن الذي يمنحه الأوربيون لاقتناء الكمية من هذا النوع من السمك، وبعد مروره بعمليتي المعالجة والتجميد اللتين تكلفان مصاريف إضافية، يبيعه إلى وحدات تجميد السمك في المغرب بثمن لا يتجاوز 150 درهما في أحسن الأحوال، ما يطرح أكثر من تساؤل عن غاية العملية علما أن البائع يخسر ولا يربح. أحد محاسبي هذه المعامل التي يتعامل معها الرجل، كشف أن الإدارة لم تمانع في شراء البضاعة رغم الشبهة المحيطة بها، اعتبارا لهامش الربح المغري، لكنها رفضت في البداية منح البائع فاتورة تفيد بيعها ب180 درهما للكيلوغرام الواحد كما طلب، ففاوضها إلى أن استقر الأمر على 150 درهما. مصادر جد مقربة من الرجل أسرت ل"أخبار اليوم"، أنه يستغل كل سنة مواسم صيد الأخطبوط لغسل أموال ضخمة يحصل عليها من تجارة المخدرات. من بين الطرائق المسلوكة في هذا الباب، حرص بعض أباطرة الصيد على تحويل عائدات عمليات التداول في سوق البيع بالجملة إلى حساباتهم البنكية، في مقابل تسليم مصاريف الإنتاج ومستحقات البحارة من صناديق سوداء، لا تهتم بتكاليف مصاريف الرحلة، كبيرة كانت أو صغيرة، بل في غالب الأحيان تمنح أموال أكثر من المصاريف التي كلفتها رحلات الصيد، كما يحكي ذلك غير واحد من ربابنة قوارب الصيد ومجموعة من البحارة. استنزاف باسم القانون من بين الطرائق التي يعتمدها ممتهنو الصيد لاصطياد أكبر عدد من السمك، هي طريقة "لاشكيط" التي تؤدي إلى استنزاف الثروة السمكية وتلويث المصايد، وذلك كون ثقب شباك الصيد الجد صغيرة مخالف للمعايير المسموح بها، لأنه يتسبب في اصطياد الحوت الصغير المحظور صيده. من بين الحيل الأخرى المتبعة لتجاوز القانون؛ والرامية إلى الالتزام بأمر يلح عليه المواطن الأوربي، يتمثل في ضرورة التدقيق في المنطقة التي اصطيد فيها السمك، هي اصطياد ضعف الكمية المسموح بها أو يزيد داخل مصيد ما وتقسيمها عند التفريغ إلى جزأين، أحدهما تلصق عليه ورقة تفيد اصطياده داخل المصيد الحقيقي، وأخرى تزعم اصطياده في منطقة لا يوجد بها سمك ولا تدخلها قوارب الصيد، بهذا تبرر الكمية وتقدم وكأنها قانونية. ورغم تأكيد السلطات المعنية وجود لجان للمراقبة تابعة للوزارة الوصية، فإن دورها شبه غائب، بل حتى مديرية المراقبة التي أوجدت لهذا الغرض، تزعم عدم توفرها على الوسائل والعدد الكافي للموارد البشرية لمباشرة مهمتها، يقول أحد المسؤولين المحليين التابعين لوزارة الفلاحة والصيد البحري؛ "نعول كثيرا على بعض البحارة لمدنا بمعطيات تساعدنا على ضبط حالات التهريب، وآخر عملية أوقفنا فيها قاربا يحمل أطنانا من السمك غير القانوني، ساهم فيها أحد هؤلاء البحارة بشكل رئيسي". تزامنا مع مغيب الشمس، تتهاطل أعداد كبيرة من البحارة على ميناء المدينة، فيهم الشيخ الكبير وضمنهم الطفل الصغير، يقصدون مورد رزقهم الأوحد في ظل انعدام فرص الشغل داخل المدينة، وعدم قدرتهم على الاستفادة من الريع الوافر المخصص لمن اختير من أهلها، كبطائق التعاون الوطني "الكارطيات"، التي يتقاضون بموجبها أكثر من ألفي درهم في الشهر الواحد. خالد، شاب بالكاد بلغ 18 سنة، بثيابه الرثة وكيسه البلاستيكي المتهالك، الذي يضم حبات من الخضر ونزرا يسيرا من لحم أوشك أن يفسد، يقدم الميناء على عجل كي يكون في الموعد فيتجنب توبيخ رب عمله، يسرد جزءا من معاناته فيقول؛ "امتهنت الصيد مذ كنت طفلا، وذلك بعد أن غادرت الدراسة مكرها نتيجة ظروف الأسرة القاسية، لم أجد أمامي سوى البحر موردا للعيش، الطريق الذي اخترته مكرها غير مضمون العواقب، أخاطر بنفسي كلما ركبت القارب، من أجل دراهم معدودات بالكاد تسد نفقاتي وأسرتي، نتسلمها عند رأس كل ثلاثة أشهر، وتتراوح بين 3000 درهم إلى 15000 درهم، حسب الكمية المصطادة وثمنها في السوق". خلف الأسوار ما حكاه خالد شأن كل البحارة الذين يشتغلون عند أرباب القوارب والزوارق المملوكة لأسماء معروفة في المنطقة وخارجها، تُرْبي أرباحها بطرائق غير قانونية، تماما كما استقصينا ميدانيا، عند منتصف الليل أو يزيد بقليل، تلج الميناء قوارب محملة بأطنان من السمك، لا تحترم الشروط المسطرة قانونا، وأحدها مثلا أن تكون الكمية المصطادة من سمك السردين والموجهة إلى التعليب أو التجميد أو الاستهلاك طرية، قد بلغت 30 طنا، ووضعت في صناديق بلاستيكية تراعي الشروط الصحية المعمول بها، مما يخول للقارب حمل عشرين طنا دونها تطرح فوق المركب وتسمى "فراك"، توجه لصناعة الدقيق وزيوت السمك. ما يحدث أن القوارب لا تتمكن دائما من صيد 30 طنا، لكنها مع ذلك تأتي بكميات ضخمة تتجاوز بكثير ما يسمح به من النوع الثاني من السردين. وفي سرعة قياسية، تحمل الكميات بليلٍ في شاحنات معظمها مملوكة لأبناء المدينة، توجه إلى المصانع أو يشرع في بيعها دون حسيب أو رقيب، أحد المسؤولين أقر بوجود هذه العملية، وأرجع سبب غض الطرف إلى خصوصية المنطقة وتفادي الاحتقان الذي يمكن أن يترتب عن تطبيق القانون بشكل صارم. الغريب في الأمر، هو عدم ملاحظة اللجان الأوربية المبعوثة لغرض المراقبة وتتبع عملية الصيد بكل تفاصيلها مواكبة لمقتضيات اتفاقية الصيد البحري بين أوربا والمغرب، أيا من هذه الاختلالات، والسبب قد يتضح إذا عُلم أن الشركات الأجنبية التي تصطاد في أعالي البحار وفي الساحل تصطاد هي الأخرى كميات ضخمة تتجاوز بعشرات الأطنان ما يسمح لها به، وتساهم بشكل كبير في تلويث مياه البحر واستنزاف الثروة السمكية، كالسفن الروسية مثلا، يحكي العربي، وهو أحد البحارة الذين اشتغلوا داخل إحدى السفن الروسية، أن "شباك الصيد في كثير من الأحيان تحمل أنواعا جد رفيعة من السمك، غير تلك المرخص باصطيادها، وعوض أن تمنح للمصالح المختصة بعد التصريح بها، تضيفها السفن إلى الأنواع المسموح بصيدها، أو تعيد طرحها في البحر بعد أن تموت!".. وهذا دأب كثير من الشركات الأجنبية؛ على حد رواية بحارة مغاربة عاينوا الأمر واحتكوا به. وإذا كانت المراقبة مناسباتية وشبه منعدمة في نوعي الصيد الساحلي والتقليدي، فالأمر بالنسبة للصيد في أعالي البحار أشد انفلاتا وتسيبا، وأول مظاهر ذلك أنه لا يمر عبر المكتب الوطني للصيد البحري، ولكن له علاقة مباشرة مع الوزارة، وكثيرهم لا يؤدي الضرائب، بل حتى الإحصائيات التي تعطى من طرف الوزارة سنويا لا تشمل الصيد في أعالي بالحار، ولا تعرف الكميات التي تصطاد، فالمأذونية الممنوحة لأرباب السفن العاملة في هذا النوع من الصيد ضوء أخضر لاصطياد ما شئت كيفما شئت متى شئت! وإلى اليوم ما يزال هذا القطاع غارقا في الفوضى رغم الحديث عن هيكلته وإعادة تأهيله بوضع شروط للاستفادة، كثير ممن التقيناهم طالبوا وزير الفلاحة والصيد البحري بنشر لوائح المستفيدين من رخصه، وجزموا أن كلها مملوكة لكبار القوم في المناطق الصحراوية وعدد من الجنرالات والأشخاص النافذين في الدولة، اعتبارا لاشتغالهم داخل السفن سنوات طويلة. ومن الوسائل التي تعمد إليها هذه السفن للتمكن من الصيد في مصايد غير مرخص بالصيد فيها، تعطيل أجهزة المراقبة المرتبطة بالأقمار الصناعية، لتتمكن من استنزاف حاد للثروة السمكية، والتركيز على أنواع رفيعة بعينها دون أخرى، وقد حذرتهم عناصر البحرية الملكية، إلا أن كثيرا منهم لازال يوظف نفس الطريقة، وفق المعلومات التي استقيت من أحد ربابنة هذه السفن. المستفيدون رغم كل الجهد المضني الذي يبذله البحارة والصيادون، والمخاطرة التي يقحمون أنفسهم فيها، فهم الحلقة الأضعف في العملية، أجر زهيد مقابل أيام متواصلة داخل البحر، والمستفيد الأكبر من العملية هم أرباب المصانع والشركات، والذين يحرصون على شراء الكميات غير القانونية من الزوارق والمراكب بأثمنة لا ترقى حتى إلى نصف الثمن المستحق. وفضلا عن ذلك، فإن هذه المصانع ومن على شاكلتها ممن يشترك معها في هامش الربح الكبير، كأرباب المراكب وملاك مئات الزوارق، تعتبر المستفيد الأكبر من الدعم القطاعي لاتفاق الصيد البحري. مديرية الشؤون البحرية التابعة للمفوضية الأوروبي، ذكرت في آخر تقرير لها، أن جهتي الداخلة – وادي الذهب، والعيون – بوجدور – الساقية الحمراء، تمنحان 66 في المائة من الغلاف الإجمالي للدعم القطاعي، أي حوالي 37 مليون أورو. الرواية الرسمية.. كل شيء يسير على نحو جيد حسب أرقام رسمية حصلت عليها الجريدة، فإن مراكب الصيد الساحلي صنف الجر الناشطة في ميناء العيون، بلغت هذه السنة 264 مركبا، اصطادت أزيد من 20 ألف طن من أنواع الأسماك الرفيعة، في حين تجاوزت مراكب الصيد الساحلي صنف الخيط 30 مركبا، اصطادت 674 طنا من أسماك رفيعة متنوعة، أما عدد مراكب الصيد الساحلي، صنف السردين سنة 2017، فقد بلغ 191 مركبا، واصطادت حوالي 157 طنا ونصف طن من سمك السردين. مندوب إدارة الصيد البحري بمدينة العيون نفى أن تكون المراقبة منعدمة في الميناء الذي يرأس تدبيره وشؤونه، مؤكدا أن مديرية خاصة لمراقبة أنشطة الصيد أحدثت حديثا، مهمتها مراقبة الكميات المصطادة ومدى احترام المراكب والسفن والزوارق للشروط القانونية، هذه المديرية خلقت حسب المسؤول مباشرة بعد أحداث الحسيمة، وقد أنجزت عشرات المحاضر التي تثبت ضبط مئات الأطنان من الأسماك المصطادة بشكل غير قانوني، بفضل الوسائل التي مُكنت منها. المندوب ذكر أيضا أن الوزارة أنجزت مخططات للتهيئة خاصة بكل صنف من الأسماك، الرخويات والصدفيات فالسمك الأبيض والطحالب البحرية ثم المرجان، خدمة لديمومة الثروة السمكية والاستغلال المسؤول والرشيد لها، وضمانا لاستمرارها للأجيال اللاحقة. فيما يهم قرى الصيد، أقر المتحدث أن مشروع إعادة تأهيلها الذي انطلق قبل أزيد من عشر سنوات، بدأ متعثرا وتشوبه مجموعة من الاختلالات، لكنه أكد في المقابل أن "مساره اليوم سليم يحقق أهدافه بثبات ونجاعة، من خلال دمج المشروع في المخطط التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية". المشروع الملكي الذي يتحدث عنه مسؤول وزارة الصيد في العيون، ينفذ تحت إشراف لجنة مركزية يترأسها وزير الداخلية، وهدفه خلق أقطاب اقتصادية تنموية تصب في مصلحة قطاع الصيد البحري، ويرمي إلى إنشاء مدن اقتصادية مكان قرى الصيد، تنضاف إلى برنامج تهيئة الساحل، وترمي إلى تيسير عمل المهنيين وتحسين ظروف عيشهم، خاصة أن هذه القرى تنتج ما لا تنتجه قرى الصيد في شمال المغرب.