يؤكد مصطفى اليحياوي، الأستاذ الباحث في السوسيولوجيا السياسية، في حواره معه، على أن ارتفاع وتيرة الاحتجاجات بالمغرب، هو مؤشر حقيقي على وجود بوادر وعي سياسي بدأ منسوبه يزداد من خلال الوعي بالحقوق عند المواطن العادي، معتبرا أن جرأته للخروج إلى الشارع قصد الاحتجاج على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المزرية، دليل آخر على أننا أمام تبدل في علاقة هذا المواطن بالسلطة، بفعل "ثورة قيمية". وشدد اليحياوي على أن وتيرة الاحتجاجات ستستمر مادامت الدولة غير قادرة على تأمين شروط تنمية ناجعة. ارتفعت حدة الاحتجاجات الاجتماعية بالمغرب في 2017 ، ما هي أسباب هذا الارتفاع؟ وهل هو مؤشر على تحول في السلوك المجتمعي ؟ أعتقد أنه يستقيم القول أن وتيرة الاحتجاجات بالمغرب قد زادت في الآونة الأخيرة، إذ إن جميع المؤشرات الرقمية تؤكد أن عددها قد ارتفع بشكل كبير منذ 2012، حيث وصل إلى أكثر من 17 ألفا و800 احتجاج في نهاية 2013. وهنا، يبدو لي أن "التنطيق" الزمني للاحتجاجات الاجتماعية "الجديدة" بالمغرب يمتد إلى بداية 2011 بظهور حركة 20 فبراير وامتدادها على 54 مدينة وإقليما، ولا أظن أن ما وقع من إصلاحات واستحقاقات انتخابية ما بعد اعتماد دستور 2011 قد أدى إلى أفول النفس الاحتجاجي، الذي أسست له تلك الحركة كثقافة اجتماعية جديدة مخالفة لمنطق الاحتجاج، الذي عرفه المغرب في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، على شكل انتفاضات ذات ارتباط عضوي بالصراع على السلطة آنذاك. صحيح أن هذه الاحتجاجات "الجديدة" ذات طابع اجتماعي محلي غير مرتبط بأجندات وطنية، ولا تبرز فيه شعارات سياسية بالمعنى المرتبط بحمولة فكرية يمكن تأويلها – إيديولوجيا- على خطاب مجابهة الاستبداد، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود بوادر وعي سياسي يمكن حمله عبر تحليل نسقي لمختلف الشعارات التي رفعت منذ 2012 على تزايد منسوب الوعي بالحقوق لدى المواطن العادي؛ وما جرأته على الخروج للشارع للاحتجاج على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المزرية سوى دليل على أننا أمام تبدل في علاقة هذا المواطن بالسلطة. نحن، إذن، أمام "ثورة قيمية" نعيشها بدون قدرة مؤسسات الدولة على التحكم في سرعة انسيابها داخل جسم المجتمع، وبدون امتلاكها لمعرفة دقيقة لحيثيات تشكلها حتى تتمكن من احتوائها. ولعل أهم تمظهراتها تتمثل في بداية عودة شرخ الثقة بين الهامش والمركز، وكأن التاريخ يرجع بنا لسؤال جدوى العيش داخل مجتمع يمتد – جغرافيا- خارج حدود التراب المحلي، طرح سالفا لدى القبائل بطريقة مختلفة عما نعيشه اليوم، ومرده ما جدوى أن نقبل بتفوق نخبوي وسلطوي للمركز من دون أن تكون عائدات هذا التسليم كافية للرضا به؟ وهنا الانتماء إلى الوطن سيرتبط في وعي فئات اجتماعية عريضة (الهشة أو الفقيرة) بالحق في الاستفادة بالتنمية وبالتضامن الوطني المنتج للحد الأدنى من الرفاه الاجتماعي، لتصبح العلاقة بين المواطن العادي والدولة علاقة مصلحية بالمفهوم الذي يتجاوز عاطفة الانتماء كلحظة شعورية تُؤمِّن التسليم الطوعي بوحدة المصير إلى ثقافة "المواطنة" كإدراك واع لا يتحقق إلا بالشعور الفعلي بالكرامة والعدالة والمساواة وغيرها من قيم الخلفية الحقوقية التي تأسست عليها الوثيقة الدستورية ل2011. الكثير من هذه الاحتجاجات لها طابع اجتماعي مرتبط بمطالب تتعلق بتوفير العيش الكريم وليست مطالب إصلاحية سياسية، ما هي منطلقات هذا التحول؟ من المفيد أن نستحضر للجواب عن تساؤلكم التقابل الموجود في تمثل الحريات والحقوق بين الشعب، وهنا أقصد المجتمعات المحلية، وبين القيمين على الجهاز التنفيذي للدولة (المركز). فإذا أمعنا النظر في الشعارات التي رفعها المحتجون، سواء في الحسيمة أو في زاكورة أو في جرادة، سنجد أن الحرية والكرامة والتظاهر السلمي والاحتجاج على اللا عدالة المجالية عندهم، كلها حقوق تمارس لديهم ليس كأعطية أو منحة من أحد، وإنما هي المرادف العملي للمواطنة التي أقرها الدستور. ولذلك، فأن تثور السلطة وتستخدم كل أدوات القمع والعنف ضدهم، إنما هو في اعتقادهم مخالفة للدولة لمسؤوليتها القانونية والسياسية والأخلاقية التي من أجلها وجدت كإطار مؤسساتي لتنظيم العيش المشترك. أما القيمون على الجهاز التنفيذي للدولة، فإن في تبريراتهم وبلاغاتهم حول الموضوع ما يضمر فهما آخر لهذه الحقوق، يقوم على اعتبارها منحة فوقية/ فسحة حرية للتعبير ذات مدة صلاحية انتهت بمجرد الاستماع لتظلمات المحتجين وحاجاتهم من التنمية، ووعد الحكومة بالنظر في مطالبهم. وعليه، فأي محاولة للضغط والإلحاح على المطالب من طرف المحتجين عبر محاولة إطالة مدة الاحتجاجات وإبداع أشكال جديدة وتطوير وسائل تواصلية حولها، إنما هو تجاوز للسقف الاجتماعي والاقتصادي للتظاهر "العفوي"، والتحول إلى مستوى سياسي يمكن أن يقدر ويكيف – قانونا- على ترتيبات ومرامي تتخفى وراء شعار السلمية، وتحمل في طياتها صراعا عموديا على السلطة وتمردا على مبدإ وحدوية الدولة. إذن، بهذا التباين في تمثل الحقوق اتسعت الهوة تدريجيا بين تقديرات المحتجين وتعاطي الجهاز التنفيذي للدولة مع احتجاجاتهم. وأعتقد أن العامل الحاسم في هذا التباين هو أن الدولة، في مختلف مستوياتها المؤسساتية، لم تستأنس بعد بالتقلبات القيمية التي شهدها المجتمع المغربي، خاصة الشباب، ولا تعتبر أن حراك 20 فبراير ولا حتى دستور2011، قد مثلا لحظتين مفصليتين في تاريخ ثقافة المواطنة في المغرب، تأثرت بهما بشكل كبير علاقة المواطن العادي بمؤسسات الدولة. ولذلك فإنك تجدها تستعجل في لحظات اشتداد الحراك إنفاذ القانون بشكل خطي لا يراعي السياق الاجتماعي، ولا مخاطر اللجوء إلى تحيين القاموس والوسائل التقليدية لقمع التظاهرات التي كثيرا ما لجأت إليها الدولة قبل حراك بداية 2011. ما هي توقعاتكم لمآل هذه الاحتجاجات؟ هل ستتنامى أكثر؟ وما الذي سيميزها في اعتقادكم؟ في اعتقادي، أن وتيرة الاحتجاجات ستستمر مادامت الدولة غير قادرة على تأمين شروط تنمية ناجعة كفيلة بإنتاج فرص شغل مستدامة والإجابة عن الحاجيات التنموية المستعجلة في المناطق التي تعاني أزمات اجتماعية واقتصادية مزمنة. والذي يزيد من مخاطر ارتفاع وتيرها الخطاب الذي يروج له المنتخبون في تلك المناطق وممثلو المصالح الخارجية، والذي يؤكد أن هامش الإجابة – محليا- عن هذه الحاجيات ضعيف، ولا يمكن معالجة هذا الواقع إلا بتدخل الدولة مركزيا. إن افتقاد هؤلاء للمبادرة واستمرار تردد الدولة في ورش اللاتركيز الإداري والجهوية الموسعة، سيزيد من الاحتقان المحلي والشعور باليأس وسط شرائح اجتماعية لم تعد لها الثقة في جدوى وجود الوسائط الإدارية والهيئات المنتخبة المحلية والوطنية. بالمحصلة، إذن، يمكن القول إن مجمل الحركات الاجتماعية التي عرفها المغرب منذ 2012، أو التي يتوقع أن تظهر في المدى المنظور هي ذات طبيعة عفوية مرتبطة بتشكل وعي لحظي لدى جزء من المجتمع المحلي تنطلق شرارته بطريقة فجائية عبر مفعول حدث عرضي (موت محسن فكري بالحسيمة، وموت شابين في آبار الفحم بجرادة وغلاء فاتورة استهلاك الكهرباء، وانقطاع الماء الصالح للشرب بزاكورة…). بمعنى آخر، الذي سيحرك هذه الاحتجاجات على المدى القصير هو المعيش اليومي المرتبط بأوضاع الاقصاء والفقر والتهميش وقلة الحيلة والشعور باليأس وبالظلم الاجتماعي. وما يمكن تسجيله في هذا الصدد هو أن هذه الاحتجاجات لن تختلف عما تطبع عليه المجتمع خلال العشرية الأخيرة، أي التظاهر السلمي في التعبير عن المطالب والمشاعر (الانتماء إلى المغرب غير النافع والإحساس بالإقصاء) والآراء المتعلقة بالعيش المشترك وقضايا العدالة الاجتماعية والبطالة وتوزيع الثروات الطبيعية وتكافؤ الفرص. ما هي التحديات التي تعتقدون أنها ستواجه المشهد السياسي بالمغرب في السنة الجديدة 2018؟ لعل أهم التحديات التي ستواجه المشهد السياسي بالمغرب في السنة المقبلة: أولا كيفية احتواء اليأس المستشري في أوساط اجتماعية عريضة فقدت الثقة في جدوى الانتخابات، وفي جدوى الانخراط في العمل الحزبي والنقابي المنظم في ظل مشهد حزبي ونقابي متأزم وغير قادر على حماية استقلالية قراره، وعلى تجديد نخبه. ثانيا كيفية معالجة أعطاب النموذج التنموي في ظل اختلالات المالية العمومية، واستمرار العجز التجاري، وتزايد الفوارق الاجتماعية، وعدم استقرار نسبة النمو، وعدم قدرة الدولة على تعبئة الفاعلين حول رؤية مشتركة ومتقاسمة ومتضامنة. ثالثا تجاوز ثقافة الاستعجال في التعاطي مع برامج ومشاريع التنمية الاجتماعية، واقتراح رؤية لتنمية وتثمين الرأسمال اللامادي كفيلة بتعبئة مختلف قوى المجتمع. ورابعا تثمين دينامية وحيوية المجتمع المدني على المستوى المحلي، وتجاوز التوظيف الفوقي الذي عادة ما تلجأ إليه السلطات والهيئات المنتخبة المحلية أداة لتدبير مصالحها السياسية، بشكل يفقد جمعيات المجتمع المدني استقلاليتها وقدرتها على التدخل في جغرافية القرب الاجتماعي، الذي أصبح بؤرة لأزمات مزمنة. هل تعتقدون أن الحكومة قادرة على استيعاب منطق الاحتجاج الذي بدأ يتنامى بشكل سريع؟ وهل ستصمد كثيرا لتكمل ما تبقى من ولايتها خصوصا بعدما تأخر التعديل الحكومي؟ أظن أن واقع التفاوتات المجالية قد بلغ مستوى لم يعد فيه للحكومة القدرة على اقتراح حلول عملية سريعة بإمكانها استيعاب غضب الشارع وإلحاحية شرائح اجتماعية عريضة على حقها في التنمية المنتجة للرفاه الاجتماعي، خصوصا إذا علمنا أن النموذج التنموي المعتمد خلال 17 سنة، من العهد الجديد لم ينتج الثروة الكافية للإجابة عن الإشكاليات البنيوية (البطالة لدى الشباب، والفقر ومختلف مظاهر العوز الاجتماعي، وغياب دينامية اقتصادية مستقرة ومنتجة لفرص الشغل وشاملة لمختلف مناطق المغرب…). إن عطب النموذج التنموي يستدعي، في اعتقادي، جرأة سياسية في إعادة ترتيب أولويات إنتاج الثروة، وهو الأمر الذي سيكون من قبيل "العبث" التعويل فيه على حكومة تشكلت في سياق غير سليم بعيد عن خيارات الناخبين وبتركيبة أغلبية غير متجانسة – سياسيا- لا تؤهل على بناء رؤية سياسية بعمق استراتيجي مستقل عن القوى المالية والاقتصادية، التي راكمت مصالح ريعية أو على الأقل غامضة في ظل النموذج المعتمد. وفي هذا السياق، أعتقد أن دينامية الاحتجاج بالمغرب لم تعد تهتم فقط، بالتعبير عن السخط السياسي من تردي الوضع المؤسساتي للدولة وتراجع الأحزاب والنقابات وتفشي مظاهر الفساد والسلطوية، وإنما أصبحت تهتم أكثر بالسخط الاجتماعي عن فشل هذا النموذج التنموي في ضمان عدالة توزيعية لموارد التنمية وعائداتها. وهو ما يؤكد الارتفاع المتزايد في عدد الحركات الاحتجاجية، وفي تنوع مطالبها وتعدد الفئات الاجتماعية المشاركة فيها. وقد برز مع هذه الاحتجاجات تنامي الطابع المعقد للفضاءات الاجتماعية والسياسية الحالية وظهور أنواع جديدة من التناقضات الناجمة عنها، والتي تؤكد أننا بصدد براديغمات جديدة لا تستدعي بالضرورة حضور الإيديولوجية ليحصل الاتفاق بين مكونات الفعل الاحتجاج. هذا التطور القيمي في تمثل الفعل الاحتجاجي بوصفه حركة اجتماعية جماعية أدى إلى بروز ثقافة التوافق، المبني على الالتزام النفعي- المؤقت للأفراد داخل الفعل الجماعي. هل يمكننا الحديث عن أن الدولة أو مدبري شؤونها عاجزة عن مواكبة هذه النفس الاحتجاجي؟ وفي هذا السياق، يمكن القول إن استمرار الاحتجاجات ما بعد الحراك الشعبي لبداية 2011، يعني أن هناك تطورا غير مسبوق في الوعي بالحقوق لدى المواطن العادي أدى إلى بروز دينامية اجتماعية بأبعاد سياسية تتجاوز السقف المتفاوض عليه في مختلف التوافقات المعلنة وغير المعلنة بين الدولة وبين الأحزاب والنقابات، باعتبارها مؤسسات للوساطة السياسية والاجتماعية التي تقوم بوظائف التمثيل المؤسساتي للمجتمع ومصالحهم الاجتماعية، والدفاع عن حرياتهم وحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية بشكل يؤمن التعبير عن إرادة "الأمة" في تدبير الشأن العام. كل هذا يجعلنا نخلص إلى أن المجتمع المغربي ما يزال يعيش سياق تحول قيمي عميق لم تستطع الدولة، أو لنقل على الأقل، أعوانها ومدبريها المركزيين من مواكبته والتأقلم معه، بسبب عوامل عدة، نذكر منها على وجه الخصوص، وجود أزمة اجتماعية حادة بسبب البطالة وقلة فرص العمل القار، وعدم قدرة هؤلاء الأعوان على تجاوز التمثل التقليدي للسلطة، وشيوع الرشوة والابتزاز واستغلال النفوذ… بالجملة، إننا أمام عجز على الإقناع لدى الحكومة والدولة بصفة عامة، وفي الآن نفسه أمام إلحاحية على ممارسة الحق في التعبير، وفي احتلال الشارع العام من لدن فئات اجتماعية مختلفة في الأعمار، وفي الانتماء الجغرافي، وفي الوسط الأسري، وغير مبالية بقواعد الالتزام التنظيمي للحركات الاجتماعية التقليدية. ولذلك تجد أن أغلبية تلك الحركات الاحتجاجية غير مهيكلة وغير ملتزمة بأفق إيديولوجي أو استراتيجي أو سياسي محسوب على نقابة أو حزب معين، وهي منشغلة بإحداث الأثر/الصدى في الزمن اللحظي المبني على إسماع صوت "الشعب" المستنكر لكل ما من شأنه أن يحيل على ثقافة الخضوع والخنوع والتسليم بواقع الحكرة والتسلط. وأظن أن في هذا تقديرا "شعبيا" عفويا لمعنى الإصلاح الديمقراطي المنشود، فليس كاف عند المواطن العادي تحيين القوانين وملاءمة النصوص التشريعية للوثيقة الدستورية الجديدة، ولذلك تجده كلما أتيحت له الفرصة، وكلما استفزه سلوك الأعوان العموميين، كلما عبر ب"شجاعة" و"شراسة" و"ذكاء" على إرادته في إحراج الدولة لكي تغير سلوكاتها، ولكي تؤكد صحة إرادتها السياسية في تفعيل حقوق المواطنة بدون أي تمييز أو تردد. هذا الواقع جعل من الاحتجاجات فضاءات مفتوحة لإبداع أشكال "بديلة" للتظلم المسطري من القهر المشرعن للدولة، تصرف عبرها مواقف وتعبيرات غير مؤدلجة بشكل واضح وغير مؤطرة بشكل فوقي صارم ولا تتحكم فيه قيادات ذات واجهات تنظيمية أو فكرية أو سياسية أو نقابية ذات مفعول رمزي "تربوي". وقد ساعدت هذه الفضاءات على التقاء أشخاص من فئات اجتماعية مختلفة ومشارب ثقافية وسياسية متنوعة حول قضايا ومطالب عملية ذات ارتباط مباشر بالواقع اليومي للمواطن العادي، وأصبح الأهم عند هؤلاء هو الاستثمار الجيد لتدفق المعلومات والأخبار في مواقع التواصل الاجتماعي للإنترنت لإحداث صدى شعبي ودولي واسع وسريع يسمح بالتنديد و"الثورة الرمزية" على مظاهر الإهانة والظلم والفقر والمس بالكرامة الإنسانية.