قال سعيد بنيس، أستاذ الأنتروبولوجيا الثقافية، بجامعة محمد الخامس بالرباط، إن الاحتجاجات المستمرة، يمكن أن تشكل بؤرة توتر أمني، في البلاد. وأفاد في هذا الحوار، ان السلطة اليوم، تحولت مع هذا الوضع من فاعل مُسيطر، إلى مفعول له، في حالة إنتظار نتائج الحراك. معظم الحركات الاحتجاجية التي تحركت ضد بعض تصرفات السلطة منذ 2011 أعلنت رفض "الحكرة"، إلى أي حد أصبح هذا المفهوم يعكس بعدا تفسيريا للظاهرة الاحتجاجية أم أن هناك مفاهيم وأسباب أخرى وراء الاحتجاجات؟ يمكن رصد مفهوم "الحكرة" والكشف عن الإرهاصات الأولية لظهوره في خضم الحَراك الاجتماعي بالمغرب وإبراز تجلياته العامة وحضوره في الاحتجاجات والمواقع الافتراضية وتضمينه لحقول مطلبية عدة منها اللغوي والثقافي والهوياتي والشخصي والفردي وحقل العدالة الاجتماعية والتهميش الترابي والمحلي والعلاقة، مع الدولة وحقل حقوق الإنسان. ولأن مجتمع الاحتجاج يتكون من أطياف متحركة ذات هويات ومرجعيات مختلفة تنشط في فضاءات ذات طبيعة متنوعة، منها الواقعي، ومنها الافتراضي، فإنه يتم تباعا إبداع أشكال مختلفة من التعابير تظهر في شكل شحنة ناقلة للتعبئة المواطنة والفعل النضالي المزمع القيام به: مسيرة، وقفة، اعتصام.. ف"الحكرة" شعور يعبر عنه أو يكشف عنه من خلال حالات البوح الفردية أو الجماعية. إنه أساسا "مشهد حدث" يتم التقاطه وتوزيعه وتشاركه ("حالة مي فتيحة"، أو "واقعة ميكانيكي ميسور"، أو "شاب جمعة سحيم مع إسفلت الطريق…). وهكذا تنتقل الألفاظ المتداولة في اللغة اليومية من حقول معنوية عامة يستعملها المتكلم العادي إلى حقول معنوية خاصة يُؤطرها فاعلون منظمون ينتمون إلى المجتمع المدني (الحركة الأمازيغية، المغاربة القاطنين بالخارج، الصحافة، الجمعيات النسائية، حركة 20 فبراير، جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان..). يرمز مفهوم "الحكرة" في هذا الحقل الاحتجاجي إلى الحقوق المدنية المرتبطة بالمطالب المادية والمعنوية مثل الحق في الصحة والشغل والتمدرس واللغة والمساواة والاحترام والكرامة وإدارة مواطنة.. فلفظة "الحكرة" تعدو أن تكون الكلمة الموحدة (leitmotiv) لجميع الأطياف: (السلفيون، الأمازيغيون، اليساريون، الإسلاميون، ومواطنون من مشارب ومدن وجهات مختلفة). فموجة الاحتجاج التي اندلعت في 20 فبراير 2011 أو مؤخرا في قضية "سمّاك الحسيمة"، تميزت بتبنيها لخطابات وشعارات ترمي في مجملها إلى المجاهرة باللامساواة وانعدام العدالة الاجتماعية. فتم تنصيب مفهوم "الحكرة" ككلمة مفتاح في الفضاء الواقعي (المسيرات والتجمعات) والفضاء الافتراضي (الفايسبوك التويتر والمواقع الرقمية). وبموازاة مفهوم "الحكرة" في منظومة الاحتجاج تظهر، كذلك، عدة تنويعات شكلية منها النداءات و"الهاشتاك" والمذكرات والشعارات تعتمد تعددية لغوية (الدارجة،الأمازيغية، العربية، الفرنسية، الإنجليزية)، وتكتلات افتراضية ومظاهر احتفالية (وصلات مسرحية أمام مبنى البرلمان…) للترافع على مطالب اجتماعية من خلال صيرورة الرفض وعدم قبول التوافقات إلى حد إعادة النظر في بعض المسلمات مثل تغييب العلم الوطني في بعض المسيرات. هل تعتقد أن الاحتجاجات الأخيرة تعكس تغييرا في التمثلات الثقافية والاجتماعية تجاه السلطة؟ التغير طرأ أولا في التعاطي مع الفضاء العمومي وعلاقته بمنظومة الأخلاق والقيم في ارتباطها بمقولات الاحتجاج والسلم المدني، حيث إن الاحتجاج على السلطة أصبح يجد له متنفسا عبر التفاعل الجمعي والشعور بالمواطنة داخل الفضاءات العمومية، التي أضحت معاقل للاحتجاج (أمام البرلمان أو الشوارع الرئيسية في كبريات المدن أو أمام مقرات العمالات أو مقرات الجماعات المحلية أو أمام فضاءات المحاكم..). لقد تحولت السلطة من فاعل مسيطر إلى مفعول به في حالة من الانتظارية والترقب، لاسيما إذا تم اعتبار المميزات السوسيو ديمغرافية والحالة العاطفية للمحتجين. فالتحدي والمواجهة والاحتجاج أصبح هو الطريقة المثلى للتفاوض مع السلطة داخل فضاء عمومي له حمولة سيكولوجية، ويمتح منه الفرد والجماعات هويات تعويضية تمكن من تقمص عدة أدوار منها دور الضحية ودور البطل ودور المظلوم، وهذا ما يسهل معاينته من خلال الاحتجاجات الأخيرة في سطات وأصيلا وطنجة والحسيمة. من هذا المنظور يستحسن ربط التغيير الحاصل في التمثلات الثقافية والاجتماعية تجاه السلطة بالملامح السوسيو ديموغرافية والثقافية والنفسية والسياسية للمحتجين في ارتباطها بالوضع السوسيو اقتصادي الذاتي وقيم التعبير عن الذات ومشاعر الحرمان النسبي في أوساط المحتجين. كما تكمن أهمية هذا التحول في التمثلات الثقافية والاجتماعية تجاه السلطة في فحوى طبيعة السلوك الاحتجاجي الذي انتقل في الحالة المغربية من سلوك "حربي" وعدائي، إلى سلوك "سلمي" وحضاري يتحدى السلطة من خلال إبداع أشكال احتجاجية ترافعية. من جانب السلطة لوحظ أن هناك نوعا من التكيف والتجاوب مع الاحتجاجات، ماذا يعكس ذلك؟ التجاوب مع الاحتجاجات والمطالب المرفوعة تؤثثه ثنائية الإقليمي والوطني، حيث إن ما وقع في بلدان الجوار كتونس ومصر وليبيا أبان على أن انزلاق الاحتجاجات السلمية وعدم التفاعل معها بحكمة يمكن أن يؤدي إلى عنف دموي وحالات عصيان مدني وحروب أهلية. فيما يتعلق بالوطني يمكن أن تشكل الاحتجاجات المستمرة في جهة بعينها بؤرة توتر أمني ونموذجا يمكن أن يُحتذى به في باقي الجهات الأخرى. لهذا يبدو منطقيا معالجة المطالب الحقوقية والخروقات الإدارية (حالة "مي فتيحة" وحالات أخرى)، على أساس احترام المواطنة المنصفة، والتي تمثل أسمى تجليات العيش المشترك والرابط الاجتماعي في صيغته المغربية الموحدة ألا وهي رمزية "التمغربيت".