غبار المعارك الكلامية التي دارت رحاها، ولم تتوقف، بين أنصار بنكيران والعثماني، حجبت عنا حقيقة مفادها أن حزب العدالة والتنمية هو الحزب الإسلامي الوحيد الذي مازال يقود حكومة في دولة عربية، منذ 2011. فحتى تونس، مهد الربيع العربي، تراجع فيها إخوان الغنوشي. كما أن الجزائر التي سبقت المنطقة بعشرين سنة في فسح المجال أمام الإسلاميين، قبل الانقلاب عليهم، أبانت فيها الانتخابات البلدية الأخيرة عن محدودية حضور الأحزاب الإسلامية في المشهد السياسي الجزائري. لن نتحدث طبعا عن وضع الإخوان المسلمين في مصر الجنرال السيسي، فتلك تراجيديا أخرى مازالت أحداثها تجري أمامنا بالدماء وبالدموع. المتحمسون لبنكيران أكثر من بنكيران نفسه – ويوجدون داخل العدالة والتنمية كما خارجه – يتساءلون: وما قيمة الاستمرار في حكومة أعضاؤها ليسوا أكثر من موظفين كبارا يساعدون الملك. لهم شكل سياسي وجوهر تقنوقراطي. حكومة لا سجال سياسي فيها كما كان بالأمس بين بنكيران ومعارضيه. حكومة أصبحت خفة ظهور رئيسها ثقيلة على نفوس المغاربة؟ أسئلة على قدر كبير من الصحة، لولا أنها تغفل أمرا مهما، وهو أن بنكيران كان محظوظا، فالذين أرادوا عرقلة تجربته وضعوا في طريقه أذرعا منكسرة من سياسيين فاقدين للمصداقية والأهلية السياسية، فكانوا بمثابة الحطب الذي أحرق أحزابهم ودفع عربة بنكيران إلى الأمام. فالنجاحات الانتخابية التي حققها العدالة والتنمية في 2015 و2016، والتعاطف الواسع الذي حصل عليه الحزب تحت قيادة بنكيران، لم يكن بفعل إنجازات باهرة حققتها حكومته، بل كان، أساسا، بفعل صدق ونقاء يد الرجل وفريقه، وهو ما كان ينتفي في معارضيه أو معرقليه بالأحرى. لذلك، فنجاح بنكيران شبيه بما عبر عنه الشاعر بقوله: "أبشر لقد نلت ما ترجو وتنتظرُ.. وصارَ يجري على إسعادك القدرُ". فهل كان بإمكان بنكيران، لو تم التمديد له، أن يلعب دورا أهم من العثماني بالنسبة إلى حزبه، وإلى السياسة عموما؟ من المؤكد أن الرجل كائن سياسي ممانع، وقد أثبت مهارته في قيادة الحكومة وممارسة المعارضة في آن، بتعبير الحبيب المالكي. لكن، هل كانت ستسعفه المرحلة، خصوصا مع التحول الحاصل على مستوى قيادات الأحزاب التي يجري تغيير زعمائها السجاليين بمهندسين منفذين؛ يعملون في صمت دون زعيق إيديولوجي أو خطاب سياسي قوي، من أمثال عزيز أخنوش ونزار بركة، وربما محمد حصاد؟ ثم ماذا في إمكان بنكيران أن يفعله. هل كان سيدفع الحزب للخروج إلى المعارضة؟ هذا غير وارد. أم يجعل نتائج الحزب في ما تبقى من انتخابات جزئية وحتى العادية في 2021، أحسن مما تحقق في ظل حكومة العثماني؟ هذا أيضا غير وارد، لأن نتائج حكومة العثماني الإيجابية – إن كانت- سيتقاسمها مع كل شركائه المتضامنين، عكس ما حصل مع حكومة بنكيران، التي كانت مكونة من حلفاء غير منسجمين مع رئيس الحكومة، مثل الاستقلال ثم الأحرار، فكانت النتيجة أن استفاد البيجيدي من تناقضات خصومه وحتى حلفائه. أم كان بنكيران، لو تم التمديد له، سيدرأ تدخل الدولة في الحزب؟ هذا لا يتوقف على بنكيران لوحده، بل على الحزب كله، والدليل هو أن استمرار العدالة والتنمية في الحكومة، وتشكيل حكومة العثماني بالطريقة التي شُكلت بها، والتي اعتبرت نوعا من تدخل الدولة في الحزب، تم أمام أعين بنكيران، الذي رغم امتعاضه لم يُخف تأييده لحكومة العثماني. إن أهم شيء بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية هو أنه رجح الديمقراطية على الشخص، وخرج من المؤتمر الأخير دون أن يطعن أحد في نتائجه. المرحلة مرحلة ردة وثورات مضادة. والكيِّس من صان نفسه وخرج من العاصفة بأقل الأضرار.