كان أول إجراء قامت به الخارجية الأمريكية، عقب الاعتراف الأخرق لترامب بالقدس كعاصمة لإسرائيل، هو تشكيل خلية خاصة برصد ردود الفعل وقياس مدى قوتها وإمكانية امتداداتها. لكن اللافت أن الردود التي قصدت الخارجية الأمريكية ليست موجة الاستنكار والشجب والتنديد الرسمي، التي صدرت من معظم العواصم العربية والإسلامية. تعليمات الإدارة الأمريكية كانت واضحة، وهي تكليف كل التمثيليات الدبلوماسية في العالم العربي والإسلامي برصد كل تحركات الشارع والمجتمع المدني، وبعث تقارير إلى الخلية إياها لوضع "بارومتر" درجة الغضب الإسلامي، وإمكانيات تداعياته على سلامة الأمن القومي الأمريكي. ولعمري، فإن ذلك يعتبر إهانة أخرى للأنظمة العربية، وتكريسا لعجزها وفشلها، بل أكثر من ذلك، هو تأكيد لتمسكها فقط بالكراسي، التي يؤدي من أجلها بعض "القادة" الجزية بعشرات المليارات من الدولارات، فيما بينت التجارب أن الحصن الواقي الوحيد للأنظمة، هو شعوبها عندما تستشعر هذه الأخيرة أن الحاكم يحميها بالديمقراطية والتنمية والتوزيع العادل للثروة، ولعل نموذج الشعب التركي الذي تصدى لانقلاب العسكر أفضل مثال على ذلك. فيما هناك حكام وضعت شعوبهم حدا لحياتهم ومثلت بجثثهم، وآخرون يبحثون عن الحماية بالمقابل، فصاروا رهينة لانقلابات مزاج العم سام… وهكذا لاحظنا ردود فعل باردة ونمطية للقوى الإقليمية التقليدية، خاصة المتمثلة في مصر والعربية السعودية، اللتين اكتفيتا بحد أدنى من "الاستنكار"، بينما سجلت السلطة الفلسطينية موقفا ملموسا وحيدا همّ رفض استقبال نائب رئيس أمريكا، فيما كان ينتظر أن يتم تعليق التعاون الأمني مع إسرائيل وإنهاء العمل بمقتضيات اتفاقية السلام، التي رماها ترامب في القمامة بعجرفة غير مسبوقة، وتكثيف التعاون مع حركة حماس وتعبئة الشعب الفلسطيني للدفاع عن حقوقه التاريخية. أما بخصوص نبض الشعوب، فمهما قيل إن المظاهرات والمسيرات لن تغير من واقع الأرض شيئاً، إلا أنها تؤرق الصهاينة وتحرج حاميتهم أمريكا التي صارت عدوة الشعوب، فيما يشعر مواطنوها بالتهديد وعدم الطمأنينة بسبب موقف لا يعنيهم في شيء، بل هو فقط، ثمن أصوات اللوبي الصهيوني بأمريكا ليرضى عن الإدارة الأمريكية، وعلى رأسها ترامب الملاحق بفضائح انتخابية لم تكشف بعد عن أغوارها. تحركات الشعوب تشكل، كذلك، ضغطاً على القوى العالمية كالاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، من أجل موقف حازم ضد احتقار أمريكا لمقررات مجلس الأمن والقانون الدولي، لذلك فكل تحرك شعبي هو محمود ومرغوب. إن التجارب التاريخية أكدت ومازالت أن ما أُخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة، وبالتالي، فإن ما سُمي بالمبادرة العربية، والتي احتقرتها إسرائيل وتجاهلتها أمريكا، كانت تحصيل حاصل لأمة عربية جعل منها حكامها آلة للخنوع والخضوع وإذلال الشعوب، فيكف يمكنها أن تطالب بالحقوق التاريخية، وبأي قوة ستضرب على الطاولة وتهدد وتنفذ التهديد إن اقتضى الحال؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه، وقد تبين أن من لا يملك القوة لا يملك مصيره بيده. إن نموذج إيران هو الأمثل بهذا الخصوص، مهما اختلفنا إيديولوجيا مع طهران، فهذا البلد "دوّخ" أمريكا لثلاثة عقود وقاوم حصارها، وجعلها في الأخير تجلس إلى طاولة الحوار وتخضع لمبدأ "خذ وهات"، فيما كبريات العواصم الغربية تسارع لإبرام الصفقات التجارية معه وتطلب وده، فقط، لأن هذا البلد فرض نفسه كقوة عسكرية إقليمية يُحسب لها ألف حساب. واهمٌ إذن، من يعتقد أن من يضع نفسه في موقف الضعف بإمكانه أن يفاوض أو أن يشترط للدفاع عن حريته، ومجريات التاريخ تؤكد ذلك، وتبين كيف كان، إذ مازال القوي يُهين الضعيف ويعبث بحريته واستقلاله وممتلكاته. لذلك، أولئك الذين يعتقدون أنهم يشترون المناصب والجبروت مقابل جزية مهينة وبيع لقضايا الأمة، هم واهمون، وسيأتي عليهم يوم، يدركون ذلك، ويبدو أنه لم يعد ببعيد.