سحبت نفسي بتتاقل من أمام حاسوبي و ألغيت كل مواعيدي، حتى البيولوجية منها وتسمرت أمام شاشة التلفاز في انتظار برنامج "90 دقيقة للإقناع" الذي يبث على قناة "ميدي1″. هذه الحلقة التي تأتي عشية انتخابات مجلس المستشارين يستضيف فيها الصحفي يوسف بلهايسي ضيفا سياسيا فوق العادة، مٌنحَ هامشا مهما من الإعلام العمومي في وقت جد حساس لإقناع المغاربة بأنه "نبي"، مما يطرح أكثر من علامة استفهام عن مدى جدية و استقلالية إعلامنا. و لا بأس قبل الاسترسال في موضوع هذا المقال من إضافة بعض الكفاءات المهمة لإلياس العماري، الرئيس المدير العام لحزب الأصالة و المعاصرة وزعيم المعارضة، و التي أسقطها التقرير سهوا. فإلياس العماري كما هو معروف، هو السياسي الوحيد ببلادنا الذي كان يستعين بخدمات "الفرقة الوطنية" لإقناع خصومه و المخالفين له، والعهدة على حميد شباط، زعيم حزب الاستقلال. هذا الأسلوب "المافيوزي" في العمل السياسي سيبقى مسجلا باسم العماري ما تعاقب الليل و النهار. إن هذا الإقطاعي المدلل، الذي أوحي إليه في وقت ما أنه بإمكانه تحويل المشهد السياسي ببلادنا إلى "نظام السخرة"، حيث "السيد و القن"، سبق أن حل ضيفا ثقيلا على ذات البرنامج في مناسبتين سابقتين و لم يتمكن حتى من إقناع نصف ساكنة دوار بمنطقة نائية من المغرب للتصويت عليه في الانتخابات الجماعية الأخيرة، ليصبح بعد ذلك رئيسا على جهة تبيض ذهبا في واحدة من أكبر المشاهد السريالية في الحياة السياسية ببلادنا، وطبعا مثل هذه السوكات الشاذة لا يمكنها أن تقنع لا الداخل و لا الخارج أن المغرب جاد في دمقرطة المجتمع. شخصيا لا يهمني ما يقوله العماري، فانتظار الفائدة من الرجل وهو يتحدث ببلادة في كل شيء أشبه بمن يقصد حانة للإنصات إلى موعظة. كلا إن ما يهمني هو ما سكت عنه العماري، أي ما لم يقله. بمعنى آخر، الكلام الثاوي بين المفردات التي يلوكها العماري بصعوبة كمن يخشى أن تنفلت منه المصطلحات وتفضحه على رؤوس الأشهاد. ما لم يقله هذا الإقطاعي الجديد للمغاربة طيلة "90 دقيقة" هو سر رفع الراية البيضاء و مطالبة هدنة مع حزب العدالة و التنمية وظهوره بمظهر التائب الزاهد. هذا التحول في اعتقادي له ثلاث مبررات.أولها، الصفعة القوية التي تلقاها "البام" و العماري على وجه الخصوص في الاستحقاقات الجماعية الأخيرة و فشله في تحريض أولياء نعتمه ضد "المصباح"، مستعملا مختلف الوسائل حتى الغبية منها. فكلنا يذكر تبرير العماري تصدر العدالة و التنمية لكبريات المدن بأن جماعة العدل و الإحسان دعمت "البيجيدي"، وهي خلطة غير بريئة يهدف من وراءها العماري إلى ربط منهج "المصباح" بمنهج الجماعة المعروفة بموقفها من الملكية. ثانيا، تفتت عقد المعارضة من حوله، بعد إعلان الاستقلال نيته في المساندة النقدية للحكومة تمهيدا لمحطة الانتخابات التشريعية في 2016. فقد أدرك حزب الاستقلال متأخرا أن الوعود التي قدمها له العماري، بوصفه مبعوث الدولة و القريب من دواليب القرار ما هي إلا سراب، و أن "البام" هو المستفيد الوحيد من ذوبان الأحزاب السياسية الوطنية. كما أن حزب الاتحاد الاشتراكي، الحليف الأساسي ل"البام" في المعارضة يعيش وضعا تنظيميا صعبا يهدد بانقراضه في 2016، ما لم يقدم لشكر استقالته فورا و يضع مفاتيح الحزب بين يدي من تبقى من عقلاء الاتحاد. وأخيرا، خوف العماري، العمدة المظلي من المعارضة الشرسة التي تنتظره من إخوان بنكيران بمجلس جهة طنجة- تطوان، خصوصا و أن المصباح يسير أهم جماعات الجهة ويحظى بقبول ومساندة شعبية، في مقابل رفض شعبي كبير للعماري وحزبه. هذا الخوف من معارضة "البيجيديين" يمكن أن ينسحب على باقي رؤساء الجهات الأخرى التي استولى عليها "البام" و على رأسهم الأمين العام الديكور مصطفى الباكوري. كان الرهان لدى أحزاب المعارضة، هو تأجيل الانتخابات الجماعية قدر المستطاع و عرقلة عمل الحكومة والمشاريع التي تعتزم تنفيذها في انتظار تقهقر شعبية بنكيران و حزبه، خصوصا و أن الظرفية الاقتصادية كانت جد صعبة، ولهذا السبب بالذات خرج الاستقلال من الحكومة و صرح أمينه العام قبيل هذا الخروج غير المدروس أن إجراء الانتخابات الجماعية آنذاك يعني تفجير الأغلبية من الداخل. الذي وقع ليلة 4 شتنبر هو العكس تماما، فقد انقلب السحر على الساحر، وصوت الشعب عقابيا للمعارضة و مكن حزب العدالة و التنمية من تبوء الصدارة في كبريات المدن و طرد الأصالة والمعاصرة إلى الهوامش، بل و إضعاف المعارضة. فهل يا ترى سيستفيد هؤلاء من هذا الدرس البليغ؟