أثار تبرير الأستاذ فتح الله أرسلان، الناطق الرسمي باسم جماعة العدل والإحسان، مشاركة الجماعة في الانتخابات المهنية و مقاطعتها لباقي الانتخابات التشريعية والجماعية الكثير من الأسئلة عن الخلفيات الحقيقية للموقف المتناقض للجماعة من الانتخابات. ونقترح في هذا المقال مناقشة هادئة لرأي للأستاذ أرسلان أبداه في حوار مع موقع "الجماعة.نت" حول انتخابات 4 شتنبر. (نص الحوار في الموقع المشار إليه) و جاء سؤال الموقع كالتالي: خرجت الأمانة العامة للدائرة السياسية للعدل والإحسان، بقرار مقاطعة الانتخابات 4 شتنبر، في حين شاركت الجماعة في الانتخابات المهنية، أليس هذا تناقضا في موقف الجماعة؟ وجاء جواب ذ أرسلان على السؤال كالتالي: (جماعة العدل والإحسان لا تقاطع العمل السياسي كما يحاول البعض أن يصور ذلك، إنما تقاطع مؤسسات سياسية ليس لذاتها وإنما لفساد تلك المؤسسات وافتقادها للسلطات والصلاحيات التي ينتخبها الناخبون على أساسها، ونظرا أيضا لأن الإطار الدستوري والقانوني وواقع الممارسة السياسية طيلة ستة عقود لا يسمح للمؤسسات المنتخبة بممارسة الحكم وإنما يحصر دورها في خدمة الجهات الحاكمة فعليا غير الخاضعة لا للانتخاب ولا المحاسبة. أما انخراطنا في العمل النقابي والمجتمعي المستقل فهو بديهي وأستغرب كيف تجعل منه تناقضا وهو من صميم عمل أي حركة مجتمعية ترتبط بهموم المجتمع، فنحن نقاطع المؤسسات السياسية الخادمة للاستبداد والفساد ولا نقاطع المجتمع والعمل السياسي برمته. وأعضاء العدل والإحسان بحكم عضويتهم في النقابات التي ينتمون إليها يشاركون بشكل تلقائي في انتخابات الهيئات المهنية التي يقدرون أن لها ارتباطا مباشرا ومستقلا بخدمة العمال والمستخدمين والموظفين). وتعليقا على هذا التصريح نورد بعض الملاحظات الجوهرية. الملاحظة الأولى، الانتخابات المهنية بما فيها الخاصة بالعمال والمأجورين، حسب الفصل 63 من الدستور، تساهم في تشكيل مجلس المستشارين بخمسي أعضائه أي ب 40 في المائة. بينما تساهم الانتخابات الجماعية بثلاثة أخماس أعضاء المجلس، أي 60 في المائة. وحسب نفس الفصل فإن الانتخابات المهنية تساهم ب "خُمُسان من الأعضاء تنتخبهم، في كل جهة، هيئات ناخبة تتألف من المنتخبين في الغرف المهنية، وفي المنظمات المهنية للمشغلين الأكثر تمثيلية، وأعضاء تنتخبهم على الصعيد الوطني، هيئة ناخبة مكونة من ممثلي المأجورين". ويوضح هذا أن المشاركة في الانتخابات المهنية مشاركة واضحة في تشكيل الأربعين في المائة من أعضاء مجلس المستشارين بالإضافة إلى أعضاء الغرف المهنية وباقي الهيئات المشار إليها في النص الدستوري، فهي رهانات سياسية بامتياز وتساهم بقوة في تشكيل مجلس المستشارين الذي هو من المؤسسات السياسية الرئيسية في المغرب، ولا شك أن ذ أرسلان يدرجها ضمن "المؤسسات السياسية الخادمة للاستبداد والفساد" ! فكيف نقاطع الانتخابات الجماعية ونشارك في المهنية ونتائجها السياسية واحدة؟ الملاحظة الثانية، يبرر الأستاذ أرسلان مشاركة أعضاء جماعته في الانتخابات المهنية بكونهم أعضاء في نقابات، والواقع أنه لا يمكن فصل انتخابات مندوبي العمال والمأجورين عن باقي أصناف الانتخابات المهنية والعامة، فهي كلها تصب في نهاية المطاف في بحر سياسي واحد لا تريد العدل والإحسان الاعتراف بالسباحة فيه علنا. فمشاركة الجماعة في انتخابات اللجان الثنائية التي تفرز المناديب الذين يصوتون بدورهم على أعضاء مجلس المستشارين وتبوء أعضائها مواقع وكلاء لوائح جهوية تؤكد ذلك بجلاء. و لا يمكن إخفاء غابة تلك الانتخابات السياسية بشجرة العضوية في النقابات بصفتها هيئات المجتمع المدني. فتلك العضوية توفر الشرط الأساسي للمشاركة في الانتخابات السياسية المهنية في أوساط العمال والمأجورين ولا ترفع عنها تلك الصفة بالمطلق. و انتخابات هيئات العمال حلقة في مسلسل انتخابي وطني ينتهي بتشكيل الغرف المهنية و مجلس المستشارين. و النقابية الخدماتية التي ترافع بها الجماعة تنتهي عند عتبة المشاركة في الانتخابات لتبدأ بعدها السياسة بالمفهوم الذي ترفضه الجماعة، أي بناء المؤسسات السياسية الخادمة للاستبداد والفساد. الملاحظة الثالثة، القوانين المنظمة و الهياكل التنظيمية التي تتم فيها الانتخابات التي تهم العمال والمأجورين لا تخرج عن ما تسميه العدل والإحسان بالمؤسسات المخزنية وتحت إشراف الداخلية. فكيف نقبل ذلك الإطار القانوني والتنظيمي في الانتخابات المهنية ونرفضه في باقي الانتخابات؟ الملاحظة الرابعة، سعى ذ أرسلان إلى التأصيل للمشاركة في الانتخابات المهنية بقاعدة أخلاقية وسياسية هي نفسها صالحة لكل أنواع الانتخابات. و قال ذ أرسلان في تبرير المشاركة في الانتخابات المهنية (أعضاء العدل والإحسان بحكم عضويتهم في النقابات التي ينتمون إليها يشاركون بشكل تلقائي في انتخابات الهيئات المهنية التي يقدرون أن لها ارتباطا مباشرا ومستقلا بخدمة العمال والمستخدمين والموظفين). و كما تمت الإشارة إلى ذلك فجميع المشاركين في الانتخابات يشاركون على أساس قاعدة خدمة المواطنين عمالا وغيرهم، كما أن لكل الهيئات الحق في تقدير الارتباطات المباشرة لتلك الانتخابات بتلك الخدمة. و لا يمكن فصل البعد الخدماتي للمؤسسات عن بعدها السياسي. أما الحديث عن كون الانتخابات المهنية "لها ارتباط مباشر ومستقل بخدمة العمال" فهذه شهادة غريبة في منطق الجماعة وموقفها من المؤسسات المنتخبة التي قال عنها ذ أرسلان في نفس الحوار إنها وطيلة 60 سنة تساهم في تكريس الفساد والاستبداد. مع العلم أن الانتخابات المهنية من خلال النقابات هي من أهم روافد العضوية في المؤسسات المنتخبة التي يعتبرها الأستاذ مخزنية ولا نتيجة من ورائها سوى خدمة الفساد والاستبداد. فكيف تزكي الجماعة انتخابات و تطعن في أخرى وهما وجهان لسياسة واحدة تلعنها الجماعة وتتعوذ منها؟ مما سبق يتأكد أن الأستاذ أرسلان لم يستطع رفع التناقض في موقف الجماعة بين المشاركة في الانتخابات المهنية والمقاطعة في الانتخابات الجماعية الذي أثراه سؤال الموقع الالكتروني للجماعة. اللهم إذا اعتبر مجلس المستشارين والهيئات المهنية المنتخبة، هيئات ديموقراطية لا تدخل في المنطق الذي عبر عنه الأستاذ حين قال (الإطار الدستوري والقانوني وواقع الممارسة السياسية طيلة ستة عقود لا يسمح للمؤسسات المنتخبة بممارسة الحكم وإنما يحصر دورها في خدمة الجهات الحاكمة فعليا غير الخاضعة لا للانتخاب ولا المحاسبة) ! فهل هذا هو رأي الجماعة في تلك المؤسسات؟ إن التفسير الأرجح للموقف المتناقض للجماعة يستند في التقدير على فرضيتين، الأولى جهل الجماعة بطبيعة المؤسسات التي تفرزها الانتخابات المهنية أو تساهم فيها. و ربما يتعلق الأمر بقصور في إدراك العلاقة السياسية و المؤسساتية بين مختلف الانتخابات. ونجد لهذا التفسير شاهدا في تصريح سابق لحسن بناجح، القيادي في جماعة العدل و الإحسان، يؤكد فيه أن الجماعة شاركت في الانتخابات المهنية نظرا لكون الانتخابات المهنية "نقابية اجتماعية وليست سياسية" ! و أنها، حسب ما تناقلته عنه وسائل الإعلام، "تدخل في صلب اختيار العدل والإحسان في الوجود في مؤسسات المجتمع ذات الطبيعة الخدماتية المباشرة والحرة والمستقلة"، وهنا نجد أننا أمام تصور قاصر للانتخابات المهنية حين اعتبر أنها غير سياسية وأنها حرة ومستقلة، في حين أن أوديتها جميعا تصب في بحر سياسي واحد. ونجد أن نفس الرأي تقريبا عبر عنه الأستاذ أرسلان. الفرضية الثانية في تفسير تناقض موقف الجماعة من الانتخابات، تفيد أن الجماعة تراهن على تعقد إدراك قواعدها وعموم المواطنين للعلاقة بين الانتخابات المهنية وباقي الانتخابات والمؤسسات السياسية التي ينتقدونها ويعارضونها، وهو ما يوفر لها هامشا من المناورة و قدرا من التخفي انسجاما مع موقفها الجدري من المؤسسات السياسية، وهو ما يسمح لها بتجنب النقد والاتهام بالمشاركة في دعم الفساد والمفسدين حسب رأيها. و الذي يساعد على هذا هو طبيعة الانتخابات، فالانتخابات الجماعية والتشريعية انتخابات التنافس فيها مكشوف للعموم، بينما الانتخابات المهنية انتخابات غير مباشرة، وبالتالي التنافس فيها ليس بالضرورة معلوما لدى الرأي العام، وهو ما يسمح لجماعة العدل و الإحسان، في التقدير، بممارسة لعبة المشاركة بالتخفي. قد تكون إحدى الفرضيتان السابقات هي العامل المفسر لتناقض موقف الجماعة من الانتخابات، لكن قد يكون القصور في الفهم السياسي مع الحرص على المشاركة المتخفية ذات الضريبة السياسية المتدنية في الآن نفسه العامل المفسر لذلك التناقض. لكن المرجح أن الجماعة تحاول تأطير ممارستها بكل هذا الغموض حفاظا على الغطاء المبدئي (مقاطعة المؤسسات السياسية) الذي يجمع قواعدها، في الوقت الذي تساهم بفعالية متخفية في بناء تلك المؤسسات. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تهافت الأساس الفكري والنظري الذي تقارب به الجماعة المشاركة السياسية.