لا يلبث متتبع لما بلغه حال الشباب العربي المسلم و- غير المسلم - .. الذي اكتشف فجأة أنه مسلم بالوراثة ... الحيرة الطاغية التي كادت أو لعلها فتكت بيقين البعض وعقيدة البعض الآخر .. فعدنا نشهد نماذج من الشباب الواعي المثقف الواعد، من ذوي المروءات، الغيور على بلده ووطنيته ... وقد تنكر ولو تلميحا لا تصريحا، لما وجد نفسه عليه من إسلام وراثي، تسرب إليه عبر جينات القبيلة والعشيرة ... هو مشكل بالغ الأهمية، لكن للأسف، نرى الغالبية وقد صموا آذانهم، وأغلقوا أعينيهم ودفنوا رؤوسهم وكتموا أنفاسهم .. حتى أنه إذا ما حاولت مناقشة هذا الموضوع مع أحدهم، خاصة من يعتبر التكلم عن الإسلام الوراثي جنحة قانونية ومعصية ربانية ... وجدته أقرب للنعامة منه للكائن العاقل .. يدس أنفه في التراب، و ينكر جدية الأمر ... فيكتفي باعتبارك مختلق لأحداث لا علاقة لها بالواقع ... والمصيبة أنه يعلم في قرارة نفسه أن الأمر جد وأن الأعداد في تكاثر يومي ... لكنه بإيمان العواجيز، هو صاحب الحق .. وما دام الأمر تجاوزه ... فليمت في حيرته من شاء ... هو حبيب الله وخليله ... والباقي ، أصلا لا يستحقون اهتمامه ! فهل يجب لوم هذا الشباب الذي اكتشف فجأة أن لا شيء يربطه بهذا الدين سوى كنية الأب وأصل الجد ... هل يحب الضرب عليه بيد من حديد، هو وتساؤلاته .. أم يجب احتواءه والبحث معه وبه و من خلاله عن مكمن العطب .. عن المعنى ! .. أنا كشابة مرت بتجارب دينية عديدة، ما بين شك، يغلبه يقين .. ويقين يشوبه شك ... ما بين التساؤلات والجدالات والصراعات ، ما بين ليالي من الحيرة وأيام من القلق ... ما بين العيش داخل الحركات إسلامية بمختلف تصوراتها، ما بين علماء شاشات وعلماء مساجد... أستطيع القول أن المشكل الأكبر والخلل الأجل.. يكمن في الشتات الذي أصابنا... النكبة الروحية التي نكست الرقي فينا فغذونا شيعا متناحرة ... كلنا دون استثناء ... تائهون، مثيرون للشفقة ! فعن أي دين تتحدثون ... أي دين يجدر بنا اتباعه ... أي دين هو الحق .. أي طريق هو الصواب ... أي ميناء هو الآمن ... هل هو طريق الصوفي المنتشي بمحبة الله والثناء على رسول الله ، المتلذذ بذكر اسم الجلالة ... المختلي في زاوية ، المترهبن في ضريح، المنزوي بين أربع حيطان .. التارك للشؤون العامة و أمورها .. العازف عن مشاركة عيال الله همومهم وكبير مصائبهم .. سياسية، اقتصادية، اجتماعية، دينية ! هل هو طريق المسلم الوسطي ... اللطيف حين يتعلق الأمر بالغرب، الداعي للتعايش والتلاقح مع الجميع، من بوذيين ومجوس، لكنه يفشل حين يتعلق الأمر بالتعايش مع أخيه المسلم ... المتحمس لفكرة الدورات التكوينية والمعسكرات التدريبية والتنمية البشرية، المجدد لمفهوم الدعوة، صاحب الدعوة في فنادق خمس نجوم والسهرات الراقية .. والألبسة آخر صيحة ... الذي ما يلبث يختفي ويصمت وينتكس على عقبيه إذا استجد في الوطن أمر يستدعي همة رجال ووقفة أبطال ... الذي لا يتوانى يبكي أما قطة جائعة ... ولا يهمه منظر امرأة مسحولة .. خوفا أو جبنا أو عدم اكتراث .. هل هو طريق، المتشبتين بالسنة في أدق التفاصيل .. السواك واللحية والجلسة والنوم والأكل والشرب .. التاركين لها في قول الحق عند سلاطين الجور .. هل هي طريق من يقطع يد سارق عملا بالشريعة، ثم يدعو من فوق منبر رسول الله مع ناهبي الأمة من جعلوا آبار البترول محضية للعائلة و البنين .. ويسألون الله له بطول العمل والتمكين ! هل هو طريق من اعتصموا بالجبال وسكنوا الأدغال ... وحملوا السلاح و نادوا ... لبيك نبي السيف .. هل هو طريق، من اجترأت على الله في السر والعلن ... من لم تدع إفكا إلا جاءت به واجترحت من الآثام ما يشقى بها جبل أحد ... ثم بررت بأن الله في قلبها أكبر وأعظم من أن يحاسبها على زلات بريئة .. هل هو طريق المتشيع الذي يسب عمرا .. أم طريق الناصبي الذي يسب عليا .. هل هو طريق، المعتزلة.. أم طريق الوهابية .. هل هو طريق تكفير المخالف ... أم طريق التعايش مع ساب رسول الله .. هل هو طريق بني هاشم ... أم بني أمية !! فلأي دين أنتم تدعون .. لدين امرأة في الستين، لم تجد معيلا سوى يد تمدها للمارين، يمر عليها آلاف المتدينين ولا يثيرهم سوى ردع منكر شابة تمر بحاذاتها ترتدي تجينز .. أم لدين سكير .. يسكر حتى يسقط في غيبات المتعة .. و يقسم بعدها بالطلاق على زوجته إن خرجت كاشفة شعرها .. فلأي دين أنتم تدعون ... لدين الثورة ضد ظلم المستبيح للمال والدين والعرض .. أم لدين السمع والطاعة والإمتثال والخرس والصمك في حضرة الظلم والفساد .. فلأي دين أنتم تدعون ... لدين تشريد آلاف اللاجئين ونزوح ملايين المقهورين وشتات وطن بأكمله بدعوى الجهاد .. أم لدين الكرسي اللعين .. عقيدة السلطة الدائمة و الجاه الممتد بدعوى طاعة ولي الأمر ... فلأي دين أنتم تدعون .. لدين الجرأة على الكبائر والدعوة للحقارات .. بدعوى التحرر والتطهر و التمرد .. فلأي دين تدعون .. لدين المرشد... أم لدين المريدين ، لدين الحزب .. أم لدين المنتمين .. تقف مسلوب اللب، مشلول الحس ... أمام مليون ألف طريق، ستين ألف مسلك .. ذهولك لا يعادله سوى ذهول طفل تاه عن أمه ووقف في منتصف السوق أمامه عشرة مسالك .. أيهما سيسلك ... وعلى رأس كل طريق بائع حلويات يغريه بالمسير وفي أخر كل طريق مغتصب أطفال معتوه ، يتربص به لينهش إنسانيته ... الأمر جد... وهو ما يشغل كل جلساتنا كفتيات يهمهن مصيرهن الأبدي، وهي معضلة نقف أمامها حيرى، منتكسين ... هي تجربة الهروب من السيء للأسوء ..هي قناعة أن الجميع خاسر أكبر... والرابح لا وجود له ! فقبل أن تجعلوا سيوفكم على رقبة كل حائر، اجعلوا قلوبكم على عقل كل باحث ... وقبل أن تلوموا من استقوت عليه نفسه و أرقته خيالاته ... لوموا أنفسكم وعاتبوها ... أن فرقتم الطرق وشعبتم المسالك ومزقتم الصراط القويم ... وقبل أن تسبوا كل سائل ... كل متردد، كل معذب، مشتاق لخلاص ... تواصوا بالإنسانية التي كرمكم بها الله ... وكونوا عبيدا له ... لا أربابا على رقاب خلقه ..! مقالي هذا هو أرق أعيشه كل يوم، و أنا أرى الحيرة تسكن أنبل الشباب وأرقاهم ... وهو صوت شاحب يستجدي همة العقلاء، والفضلاء ... وهو طلب استغاثة من ذوي الفكر الرزين والإنسانية الفاضلة ... المؤمنين إيمانا راسخا أن لهذه الأمة قومة تحييها من جديد هي رسالة لعلماء الحكمة والمتأسين بصفوة الصفوة ... حبيب الخلق عليه السلام، المتعطرين بسماحة المسيح والمتنورين بفهم إبراهيم ... اهتموا بشباب الأمة ... اجعلوهم أولوية الأولويات ، وأهم الإستثمارات ... احتضنوهم بحنان أم بارة بأبنائها، واحتووهم، احتواء أب ساهر مكافح .... فهم المستقبل ... وبدونهم كلنا إلى ضياع !