لا نتحدث، هنا، عن تمجيد الحاضر كتعبير عن رغبة جامحة في الانتساب إلى مرحلة تاريخية معينة هي التي نعيشها الآن. أقل ما يمكن أن توصف به هو أنها مرحلة مرتبكة ومربكة، تعرف كثيرا من المتغيرات والمخاضات السياسية والأهم من ذلك؛ كثيرا من التحركات الجماهيرية العفوية التي لديها أهداف محددة بكلمتين: حرية وكرامة إنسانية، وهما الفكرتين اللتين خلبت ألباب العالم المتحضر الذي يقدس مثل تلك الأفكار إذ يعتبرها من الحقوق الأساسية التي تعبر عن الهوية الإنسانية، التي ليس لها نتيجة تؤول إليها غير الديمقراطية، حتى أطلقوا على هذه المرحلة اسم الربيع العربي. هذه المرحلة المسبوقة بمرحلة أخرى وصفت بكونها مرحلة قاتمة في التاريخ العربي المعاصر حيث كانت الوراثة أو الانقلابات العسكرية أو العمالة للأجنبي والاغتيالات السياسية هي سبل الوصول إلى السلطة والاستحواذ على مقدرات الشعوب العربية وخيراتها من أجل تبذيرها على أهواء وأوهام ورغبات الحكام الاستبداديين وأقاربهم. ولم تكن مفاهيم من مثل تدبير الشأن العام والمشاركة الشعبية في إنتاج القرار السياسي إلا ترفا فكريا. عرف فيها العقل غيابا لم يسبق له أن شهده ولا حتى في عصور الانحطاط؛ في إطار العلاقات المعقدة الحاصلة بين الفرد والعالم، على مستوى السلوكيات اليومية بين الإرادة الخاصة مقابل السلطة و الإرادة العامة و مسألة تحكيم العقل. و ملحوقة بمرحلة أخرى ملغزة، زئبقية، و شديدة الإرباك. أو نتحدث عن هذا الحاضر بكونه غير ملحوق بأية مرحلة يمكن أن تكون مُباينة لما تعيشه الإنسانية، اليوم، على المستوى الاقتصادي و السياسي و الثقافي و الأخلاقي. باعتبار نمط العيش الحالي هو سقف التاريخ. و ذلك ما يعبر عنه بنهاية التاريخ، أو الإنسان الأخير. بل إننا نتحدث عن الحاضر باعتباره الواقع الذي علينا أن ننخرط فيه و نعترف به و نتخذ منه موقفاً. و نشارك كذوات واعية عاقلة مفكرة في مساءلته و نقده حتى نخرج بقناعة حول ما يدور حولنا و فينا من أحداث و متغيرات، أو حتى نستطيع أن نستمد منه الإشارات الكافية لاستشراف عصر مستقبلي و شيك الحدوث يمكن للإنسان العربي أن يحقق فيه طموحاته وتطلعاته المشروعة إلى الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وذلك بإنشاء أنظمة ديمقراطية تحترم مواطنيها وتحافظ على حقوقهم وتصون حرماتهم وتنمي حرياتهم. وذلك ما كان يبشر به المتفائلون في الربيع العربي الذي تعرض إلى حملات تشويه قوية. سخرت لها جهود ضخمة تقنية وإعلامية ومالية، من طرف القوى السياسية الاستبدادية القديمة التي تأبى أن تتقهقر إلى الماضي و تصر على إبقاء المنطقة العربية برمتها في الماضي بدل أن تحجز لنفسها مكانا ما بكيفية ما في المستقبل الوشيك الحدوث. عندما أدركت أنه لا مكان للأهمية التي يحظون بها في هذا المستقبل الذي تنشده التحركات الشعبية. فآثرت أن تكبح عجلت الزمن للإبقاء على الوضع رازحا تحت وطأة ماض سحيق. ولأجل ذلك لجأت الدول التي تخشى قدوم هذا المستقبل إليها على حين غرة كدول الخليج العربي إلى فتح خزائنها للعسكر ليعيدوا الدول التي رمت خطوة إلى بعض المستقبل ليعيدوها إلى ما قبل الاحتجاجات وذلك ما يحصل في مصر، وللمتشددين الدينيين ليحولوا ما كان يمكن أن يكون ربيعا إلى خريف للأرواح البشرية وذلك ما يحصل في سوريا. بينما لم يكن يمثل فكر الربيع العربي، في واقع الأمر، إلا تبشيراً بقرب تخلص الإنسان العربي من حالة الوصاية الفكرية التي يرزح تحت نيرها الأفراد والجماعات في إطار المذهبية و الطائفية والعرقية وغيرها من الاتجاهات السياسية التي تجعل من الفرد تابعاً لا غير وأداة لمواجهة الطوائف والمذاهب الأخرى والأعراق الأخرى وحتى الأديان الأخرى في الوطن العربي. وذلك ما يعبر عنه ب «حالة القصور». ويتجلى إنجاز حدث فريد ومأمول يتمثل في الخروج من هذه الوضعية المخزية بإعمال العقل. ويستلزم هذا الإنجاز ضرورة الخروج من هذه العملية -إعمال العقل- بقناعة فردية في إنتاج القرارات على كل الأصعدة. كذلك لا يجب أن يقوم كتاب ما مقام تفكيرنا، أو أن يقوم مرشد ما مقام ضميرنا.... و هذا يحيل، طبعا، إلى ضرورة التمتع بحق من الحقوق الأساسية للفرد هو حق حرية التفكير بل هو واجب من الواجبات التي يمليها حدث التطلع إلى المستقبل الوشيك الحدوث. لذلك فالفرد مطالب، لتجاوز حالة القصور هذه، بإجراء تغيير جذري يجريه هو بنفسه على عقليته بواسطة المعرفة، إذن هي عملية تصب في ضرورة إعمال العقل الفردي بواسطة المعرفة. غير أن هذا الفرد الذي يعتبر عضواً في مجتمع. أي أنه، في جميع أحواله، مرتبط بالضرورة، بعلاقات غيرية عديدة ومعقدة. كعلاقته بالذوات الأخرى، وعلاقته بمؤسسات وهيئات المجتمع المدني الذي ستذوب فيه الطوائف والمذاهب وحتى الأعراق، وكذا علاقته بالسلطة. أو لنقُل تقابل إرادته ( الفرد) مع الإرادات الأخرى منفردة والإرادة العامة. وهذه العلاقات لا يمكن أن تنظم إلا في دولة مدنية حديثة. لذلك تنقسم عملية إعمال العقل الفردي إلى مستويين: خاص و عام. أما الخاص فيتعلق بالفرد عندما تكون له وظيفة محددة يؤديها في المجتمع. كأن يكون شرطيا أو جنديا أو عاملا في معمل أو يتقلد إحدى المناصب السياسية كوزير مثلاً، و هنا نؤكد على الطاعة أي الخضوع للإرادة العامة وليس لإرادة فرد واحد مهما كان منصبه. أما عندما يفكر المرء من أجل أن يفكر كانشغاله بقضايا وجودية عامة أو دينية أو أخلاقية أو أن يتخذ من العالم موقفا، فذاك استخدام عام للعقل؛ وفيه حرية مطلقة. هذه هي الوصفة التي نقدمها لكي يخرج الإنسان العربي من حالة القصور، التي تجعل منه تابعا وحسب، من أجل أن يصنع مستقبله الذي يتوق إليه حيث تأبى قوى أخرى أكثر استعدادا مالا وعتادا من أجل إبقاء المنطقة العربية في الماضي السحيق. بهذا المعنى سيصبح الإنسان العربي راشدا عندما يسعى إلى المعرفة من أجل بناء تصور خاص للمستقبل وتكوين موقف محدد من الذات الفردية الجماعية بعيدا عن المذهبية والطائفية. ودعم وعيه بالمرحلة التي يجتازها من أجل اجتيازها. *كاتب مغربي. للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.