لصرف الانتباه عن فشل الزعامات السياسية الكبرى في مهام تنشيط الساحة السياسية، والتي تعيش جمودا وهدوءا غريبين، لجأ زعماء الأحزاب "الوازنة"، إلى مناورات كلامية لإشغال الرأي العام عن حالة الانسداد الذي وصلت إليه التجربة الديمقراطية التي أتت بها رياح الربيع العربي. هاته المناورات وإن اتفقت على هدف واحد هو التخلص من الحرج الذي أصاب الزعامات لأنها لم تعد تجد ما تبرر به زعامتها أمام "القواعد" وعموم الشعب، لكن أهدافها تختلف من زعيم لآخر. ويمكن أن نحصر زعماء المناورات الآنية في زعيم "العدالة والتنمية" عبد الإله بنكيران، وزعيم "الاتحاد الاشتراكي" إدريس لشكر، وزعيم "الاستقلال" حميد شباط. هؤلاء السادة هم نجوم فرجة هذا الوقت. فبنكيران ولفك الضغط المسلط عليه، بعد فشل تجربة حزبه في إدارة الشأن العام – كما كان متوقعا - والقيام بتنفيذ وعوده التي كان سخيا في توزيعها يمينا وشمالا، عند بداية التجربة وحتى قبلها، اختار لمز حزب الاستقلال من منبر البرلمان، وتذكيره بأنه هناك أخبار متداولة عن شبهات تحوم حول قياداته بشأن شراء شقق بالخارج وتهريب أموال. بنكيران يعرف ما يقول، وقال ذلك وهو يعرف مسبقا أن الاستقلال أو زعيمه شباط بالأحرى سوف يتلقى الهدية بكامل الشكر والامتنان، ويقيم الدنيا ولا يقعدها وسوف يتوجه للقضاء. فبنكيران وبشكل متعمد دفع غريمه شباط للمشاركة في فرجة إعلامية علها تعود بالفائدة عليهما جميعا. وكذلك كان، اشتعلت أطراف الاستقلال وشباط أرغى وأزبد هو ومن في فلكه، وراح الجميع للقضاء. وبذلك وجد زعيم الاستقلال الفرصة لضرب عصفورين بحجر واحد، أولا تصفية الحساب مع بنكيران الذي تسبب بشكل ما في انسحاب الاستقلال من الحكومة، وضياع مناصب وزارية وتنفيذية مهمة لا يزال شباط يسمع في شأنها الكثير من اللوم. ثانيا التخلص من الروتين الذي وقع فيه الحزب الذي تعود على المشاركة في أغلب الحكومات. والأكثر من ذلك هو أن شباط دفع بالصراع إلى أبعد حدوده، فطالب بحل حزب العدالة والتنمية، باعتباره فرعا تابعا للإخوان المسلمين التي يخوض السيسي حملة ضدهم بوصفهم تنظيما إرهابيا. زعيم سياسي آخر اضطر للدخول في مناورات ومناوشات ولكن بطريقة أخرى وحسابات أخرى وبجرأة ربما زائدة عن اللزوم. إنه زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي ادريس لشكر، هذا الزعيم ولأجل تحريك المياه الراكدة في الحزب، بعد تضرره من مشاركاته السابقة في الحكومة، اختار استفزاز التنظيمات الإسلامية والقوى المحافظة في المجتمع بطرح فكرة عجيبة وهي أنه حان الوقت لتنال المرأة حظها من الإرث مساويا لحظ الرجل. وهذه النقطة تعجب التنظيمات النسائية العلمانية الاتجاه كثيرا. وطرح المسألة مناورة هدفها خلق التفاف نسائي حول الحزب، في أفق معارك واستحقاقات تلوح في الأفق. فلشكر نظر إلى المستقبل أكثر مما ينبغي، حينما راهن على التفاف القوى العلمانية حول ضرورة التفكير الجدي في تنزيل مطلب الحداثة كبديل لمواجهة القوى الرجعية والمحافظة. وهكذا وأمام واقع مرير متسم بأزمة عميقة على كافة المستويات، تشهد بها الأرقام والإحصائيات الرسمية نفسها، نرى زعماء أحزاب اليوم، ورثة الخطيب وعلال والمهدي، يتناوشون في قضايا فارغة.وهو حال يعكس حالة الانسداد التي وصلت إليها الساحة السياسية اليوم. فبنكيران تم توظيفه لتجاوز رجة حركة 20 فبراير، ثم تمت إعادته إلى حجمه الطبيعي بالتدريج، وشباط تم توظيفه لتكسير تجربة بنكيران واستنزافها، ثم تركوه في المعارضة، ولشكر على رأس حزب ضحية مشاركاته السابقة في الحكم. فالأحزاب الثلاث تعاني من خسارة مشتركة، وزعماءها لم يجدوا سوى طرح ما يشعل معارك كلامية وضجيج إعلامي، بإثارة قضايا قد تصلح لخلق التفاف شعبي في أفق الاستحقاقات المقبلة.