ككرة الثلج تدحرجت نكتة التاجر السوسي لتتجاوز حدود التفاعل المعقول والمقبول، إلى درجة تهديد الرجل في سلامته البدنية، وممارسة الإرهاب والعنف اللفظي على أسرته. ليس أبو زيد أول من تهدر دمه من قبل عشاق الدم، وربما لن يكون الأخير. لكن لماذا أبو زيد تحديدا دون غيره من أبناء المشروع الإسلامي؟ إن الذين انبروا لمهاجمة المفكر المغربي المقرئ الإدريسي أبو زيد صنفان: صنف يعرف المقرئ الادريسي معرفة حقيقية، وصنف آخر يجهلون حقيقة الرجل جهلا تاما. لكن ما الذي يجمع بين الصنفين؟ فأما الصنف الأول، فهم من خططوا لهذه الحرب المسعورة، لأنهم يعلمون قيمة الرجل المعرفية، وقدرته التأطيرية في الحفاظ على ذاكرة الأمة، ودفع شبابها لمقاربة سؤال الهوية، وسؤال النهضة. هم يعلمون أن الرجل صوت مسموع لدى فئات عريضة من أبناء الشعب بمختلف أطيافهم، ولربما يكون الرجل واحدا من القلائل الذين يكاد يحصل حولهم الإجماع خصوصا من أبناء التيار الإسلامي، لما للرجل من قدرة على الحوار الهادئ والإقناع بالتي هي أحسن، ناهيك عن خلقه الرفيع الذي يعجب به البعيد المخالف قبل القريب الموافق. بل إن سمعة الرجل تجاوزت المغرب ليكون لها صدى في بلاد الله الواسعة؛ في شرق الأمة، وفي بلاد الغرب. فقد اجتمع في الرجل ما تفرق في غيره: فهو الحامل لمشعل هموم الأمة وقضاياها، والمتحدث باسم شعوبها المقهورة، ولعلنا نتذكر صولات الرجل وجولاته وهو يعرف بمعاناة البوسنة والهرسك يوم لم يكن هناك إعلام يكشف إجرام العصابات الكرواتية، وقد كاد الرجل يفقد حياته على الحدود الإيطالية الكرواتية فداء للقضية في حادثة يجهلها حتى الكثير من محبيه. ويبقى اسم المقرئ أبي زيد قرينا بقضية فلسطين، وما أن تذكر فلسطين حتى يذكر معها أبو زيد مثل الشمس المشرقة التي تضيئ درب المجاهدين، وعقول أبناء الأمة، وتكشف خيوط المؤامرة الصهيونية، وجيشها العرمرم من المطبعين. فلا عجب إذن أن توجه إليه كل هذه الحملة الشعواء خصوصا في هذه اللحظة التي تتزامن ووضع مشروع قانون لتجريم التطبيع بين يدي البرلمان من قبل عدد من الأحزاب الوطنية. وهو الحامل لقضايا الهوية، والمنافح الشرس عن قيمها الأصيلة، خصوصا وأن الرجل أوتي قدرة عجيبة على متابعة ما يجري من مستجدات، لذلك تجده حاضرا في مختلف المحطات بتحليلاته التي تبحث في أسباب الظاهرة، ولا تكتفي بوصف المظاهر. ولعل آخر المعارك التي خاضها كانت معركة اللغة العربية. وقدكان للرجل دور معتبر في فضح خلفيات دعوات التدريج، ولا شك أن ذلك أغضب لوبياتالفرنكفونية، ولن يدخروا جهدا في الكيل بمكيالين في ردهم على الرجل. أبو زيد رمز للوسطية والاعتدال، هو رمز لتيار بأكمله استطاع أن يتغلل بهدوء وروية في النسيج المجتمعي المغربي دون أن يتصادم مع ثوابت الأمة. ولا شك أنهذا الأمر يزعج رعاة التطرف ممن لا يهدأ لهم بال إلا حين يرون الوطن في حالة من عدم الاستقرار، ويغيضهم أن يكون المغرب فضاء استثنائيا يتعايش فيه أبناء الوطن الواحد بمختلف أعراقهم، ومرجعياتهم. ولعل تزامن الحملة المسعورة على أبي زيد مع دعوات التكفير من قبل وجوه سلفية في وجه غلاة العلمانية تفسر رغبة هؤلاء في تأجيج نفس التطرف، وإشعال فتيل الفتنة بين مكونات المجتمع، وإظهار أبناء التيار الإسلامي خصوصا بمظهر التطرف بدعوى أن ليس في القنافد أملس. إن الرجل باختصار هو رمز للمشروع الإسلامي الوسطي الذي يراد تقويض أركانه، ولذلك ليس غريبا أن يسارع المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي إلى الدعوة لحل حركة التوحيد والإصلاح المعتدلة بعد تكفير أبي النعيم السلفي لدريس لشكر، مع أن لا علاقة بين أبي النعيم ومشروع التوحيد والإصلاحي، وليس ضربا من العبث أن تليها دعوة شباط لحل حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح باعتبارها ذراعا دعويا له، في محاولة لاستنساخ نموذج الردة الديمقراطية التي يقودها الفريق السيسي بمصر. أما الصنف الثاني من مهاجمي أبي زيد والذين قلنا عنهم إنهم يجهلون حقيقة الرجل جهلا تاما، فهؤلاء هم حطب ووقود المعركة الخاسرة التي يقودها الصنف الأول. فمن طبيعة المخططين أنهم عادة ما يلجؤون إلى البحث عن أدوات لتنفيذ مخططاتهم حتى يكونوا هم في مأمن من أي متابعة، في حين يكونون خلف المتهورين من الصنف الثاني بالتحريض الإعلامي، إلا أننا نتساءل: لماذا اختيار الأمازيغ ليكونوا وقود المعركة؟ قد تتعدد أسباب هذا الاختيار لكن يمكن إجمالها في تقديري في سببين: الأول : يعود لطبيعة الرجل المستهدف أبو زيد، فمهاجموه من الصنف الأول يعلمون أن الرجل/ المشروع لن تنال منه الوسائل التقليدية الموظفة لإسكات الأصوات الحرة من قبيل الاتهام بقضايا الفساد أو المخدرات.. فقد جربوا مرة إسكاته بتهمة جمع التبرعات لفلسطين وتوظيفها في حملات انتخابية لكن محاولتهم باءت بالفشل أمام سلامة يد الرجل. الثاني: أن موضوع الأمازيغية موضوع حساس يرتبط بهوية المغاربة جميعا، وتتجاذبه تصورات مختلفة، لكن هذا الاختلاف في التصورات ظل في مستوى النقاش ولم يصل يوما إلى المواجهات الدامية بين التيارات الأمازيغية والإسلامية خصوصا في الحرم الجامعي كما حصل مثلا بين التيارات الاسلامية واليسارية، أو بين التيارات اليسارية والأمازيغية، أو بين الأمازيغ والطلبة الصحراويين. وقد أريد لحالة التعايش التي تعرفها علاقة التيارات الأمازيغية بالتيارات الإسلامية أن تنتهي. ولعل حضور أبي زيد الإدريسي القوي في فعاليات الملتقيات والمنتديات العلمية التي تنظمها خصوصا منظمة التجديد الطلابي يفسر اختيار الرجل هدفا للحرب الشرسة. ويهدف تقويض حالة الحوار المبني على الاحترام المتبادل بين تيارين يعتبران الأقوى حاليا في الساحة الطلابية. إن أخطر مدى يمكن أن تبلغه هذه الحرب الشعواء على المقرئ الإدريسي أبو زيد ليس اغتيال الرجل، فالرجل ميت على كل حال بالاغتيال أو بدونه، وليس في هذا استرخاص لدم مفكر كبير من طينة أبي زيد، لكن الأخطر هو اغتيال حلم المغاربة جميعا في انتقال ديمقراطي يتعايش فيه أبناء الوطن الواحد بمختلف خلفياتهم الإيديولوجية والسياسية. وهذا الحلم لن يتحقق إلا إذا ساد جو من الاستقرار والقبول بالآخر مهما كانت درجة الاختلاف معه، وهو ما يسعى رعاة الفتنة إلى اغتياله. إن أخشى ما أخشاه هو أن يسارع أبناء التيار الاسلامي الذي يمثله أبو زيد من الطلبة خصوصا إلى استدعاء أبي زيد للتأطير في الفضاء الجامعي من منطلق التضامن مع الرجل، وربما يتحين غلاة الأمازيغ ممن انجروا مع دعوات التحريض الفرصة للهجوم عليه فتنشب حرب هوجاء بين الطرفين تعمق من جراحات الجامعة باعتبارها نبض المجتمع، وتلهي الجميع إسلاميين وأمازيغ عن المعارك الحقيقية من أجل النهضة والتحرر من قيود التخلف والفساد. لذا أهمس في أذن أبناء المشروع الإسلامي خصوصا أبناء منظمة التجديد الطلابي أن ينتبهوا للأمر، وألا يقعوا في فخ الاستدراج للمعارك الهامشية فينسوا رسالة العلم والحوار والتجديد. إن أفضل رد على الحملة المسعورة التي تستهدف إرهاب أبي زيد ومشروع الوسطية، ومن خلفه كل صوت حر بهذا الوطن الأمين، هو أن نتمثل القيم التي عاش أبو زيد يناضل من أجلها طوال حياته، وأن ننشر فكره الوقاد بين شباب الوطن، فإذا ما اغتيل الرجل انبعث من رماده آلاف من أمثاله.