لاشك أن الأزمة الداخلية التي تمر بها تركيا في هذه الفترة معقدة التركيب، وقد استعصى أمر فهم حيثياتها على كثير من المتتبعين، نظرا لخيوطها المتشابكة، وطبيعة الأطراف المتهمة بتفعيلها.وقد تابع الجميع تطورات هذه الأزمة وازدياد درجات احتقانها مع مرور الوقت. فبعد أن طفت على واجهة الأحداث في الفترة السابقة قضايا متعددة،أحدثت جدالات سياسية بين الحكومة وجماعة الخدمة نظرا لتباين وجهات النظر بينهما، تابع الجميع قضية ملفات الفساد وغسيل الأموال التي انفجرت في الساحة السياسية التركية قبل حوالي أسبوعين، والتي تفاجأ الرأي العام بتوجيه النيابة العامة تهمة التورط فيها لثلاثة من أبناء الوزراء و مسؤولين و رجال أعمال مقربين من الحكومة التركية .ملفات الفساد هاته، التي كلفت الدولة حوالي 120 مليار دولار من الخسائر، ادت إلي استقالة الوزراء الثلاثة الذين اتهم أبناؤهم في الملف، واضطر أردوغان الى إجراء تعديل حكومي موسع. رئيس الوزراء وصف الأزمة التي تمر بها البلاد ب"المؤامرة" ذات الأبعاد الدولية، و تنفذ من طرف عملاء من الداخل ، و أكد أن الحكومة ستحبطها و ستكسر الأيادي التي تحيك خيوطها لإثارة البلبلة في البلاد . وقد وجه تهديداته لسفراء بعض الدول بقوله "لسنا مجبرين على إبقائكم في بلادنا". ومن جهة أخرى، زاد من جرعات اتهامه المباشر لجماعة الخدمة واعتبارها طرف من أطراف "المؤامرة". ترجمت تصريحات أردوغان على أرض الواقع ببدء ماسماه بعض المراقبين ب"عملية التطهير" داخل دواليب الدولة. حيث قامت الحكومة بعزل عدد كبير من القيادات الأمنية - التي يشاع أنها مقربة من الجماعة- وتم تغيير مواقع مئات آخرين منهم ، الامر الذي اعتبره حقوقيون تدخل في عمل القضاء وانتهاك للقانون. حيث تسألوا عن المعايير المعتمدة في تصفية هذا العدد الهائل من الكوادر. موقف أردوغان هذا، الذي انتقده مجموعة من الفاعلين السياسيين ، من ضمنهم قيادات من حزب العدالة والتنمية ، أدى الى استقالات متتالية لنواب و شخصيات وازنة من الحزب الحاكم ، تحدث لأول مرة في تاريخ الحزب، من ضمنهم وزيري الثقافة والداخلية في الحكومة السابقة، ووزير البيئة في الحكومة الحالية ( قبل التعديل) .رافضين المنطق الذي يدير به رئيس الوزراء الأزمة الراهنة. و مشككين في صحة الادعاءات التي أطلقها في مهاجمة لحركة الخدمة. وسائل الإعلام القريبة من الحركة تنفي نفيا قاطعا إلصاق تهمة التآمر ضد الحكومة بها، وتعتبر اتهامها بالمشاركة في ما يسمى ب"المؤامرة " لا أصل له من الصحة .و من جهة أخرى، يرى مجموعة من الكتاب الأتراك، من بينهم الكاتب، محمود اكبينار، أن تلة قليلة من المحيطين بأردوغان تحاول إشعال نار الفتنة بين الحزب الحاكم وجماعة الخدمة. فإذا كان هذا الأمر صحيح، فمن من مصلحته الوقيعة بين الحزب والجماعة ؟ و هل تصل اردوغان معلومات خاطئة عن الجماعة، وبناء عليها يتخذ قراراته في محاولة قص أجنحتها، كما يقال، داخل دواليب الدولة ؟ اختيار أردوغان الاستمرار في سياسة التصعيد بدل سياسة المهادنة،يعتبره البعض،مؤشر على أن الحزب الحاكم أدرك أنه أصبح في وضعية مريحة و لم يعد في حاجة إلى حليفه الاستراتيجي، وأن الإنجازات التي عرفتها البلاد في مختلف المجالات في العقد الأخير، أكسبت العدالة والتنمية قاعدة شعبية كافية لاجتياز المحطات الانتخابية المقبلة بأريحية وبدون حاجة الى حليف. لكن الأمر الذي ينبغي استيعابه، أن القفزات النوعية التي حققتها تركيا في المجالات المختلفة خصوصا في العقد الأخير، وترسيخها لقواعد الديمقراطية، و نجاحها في إبعاد مؤسسة العسكر عن الحياة السياسية، شارك في تحقيقها جهات و هيئات مختلفة غير حكومية، منها حركة الخدمة التي تعتبر أحد أهم أركان المجتمع المدني التركي، و المعروفة بثقلها الإجتماعي وقوتها الاقتصادية وحضورها الإعلامي. وحكومة العدالة والتنمية بقيادة أردوغان ، مع دورها الفعال الذي لا يمكن لأحد أن ينكره، ربما لا تمثل سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد. لا شك أن تصريحات أردوغان عن ما تتعرض له البلاد من ضغوطات لها جانبها من الصحة، فمعروف أن المؤامرات تحاك بدعم من جهات دولية ضد أي دولة صاعدة، خصوصا إن كان للدولة دور إقليمي متنامي في محيطها مثل الدولة التركية. ولكن ،و حسب محللين، ربما يكون اردوغان قد جانب الصواب هذه المرة في تحديد الأطراف المشاركة في ماسماه ب "اللعبة القذرة". عبدالله علوان - إسطنبول