من المعلوم أن القيم التي تتبناها الدولة ومؤسساتها تظهر أكثر جلاء حينما تحل فيها الأزمات، وتعصف بها الكوارث، فتقوم بتصريف تلك القيم في جملة من القرارات والمبادرات التفاعلية، تحترم الحادث بالقدر المطلوب والسرعة الواجبة، دون إفراط فيصبح الأمر استغلالا في تسويق الصورة، ودون تفريط فتُضرب تلك القيم في جذورها. أما ما نحن بصدده، وما نحن أمامه من محن تضرب المغرب بين الفينة والأخرى، فلا يعدو أن يكون امتحانات يواجهها الكسلاء بمنطق المجاوزة، دون أن تمنحنا المناعة الكافية لمواجهة مثيلاتها وما يليها، والعلة في الطريقة التي نتعامل بها مع هذه الكوارث والأحداث الطارئة، والقائمة على تغطية ما تعريه، عوض معالجة الأسباب والمسببات في القصور الذي يطبع التفاعل معها. فما فعلته فيضانات الجنوب الشرقي من أحداث أليمة جاوز ضحاياها ال42 وفاة ما هو إلا تعرية للوجه المشوه في الدولة ومؤسساتها، والذي تغيب فيه قيمة الكرامة الإنسانية، وإنسانية المواطن المغربي، وتغيب فيه روح المبادرة وقوة القرار في وقت تعصف فيه الطبيعة وفيضاناتها الجارفة بجزء كبير من المغرب، هذا الوجه المشوه الذي يجعل التعامل مع الأحداث لا يرقى إلى مستوياتها، ولا يحترم نتائجها على مستوى الأفراد والجماعات، من آثار عميقة وآلام غائرة. وما فعلته الطبيعة هو أنها استطاعت تعريتنا مجددا، وتعرية قدراتنا المهترئة، عرت بنياتنا التحتية التي تتلاعب فيها أيادي سماسرة الموت في الصفقات العمومية في الكثير من المؤسسات المحلية والوطنية، وفي تدبير الشأن العام المحلي في الجماعات والمجالس البلدية ومجالس المدن، والقائمة على مزيد من المحسوبية والزبونية والفساد… كما كشفت بعمق اهتزاز شعارات التنمية المحلية والقروية، والهشاشة العقيمة التي تعيشها هاته المناطق، ومن يعرف الأنحاء المتاخمة لمدينة كلميم، في اتجاه "بويزاكارن" وفي اتجاه "تيغمرت" وفي مختلف المداشر والدواوير والقرى، يدرك أن السكان في هاته المناطق لن يجدوا في مواجهة السيول حتى أقمشة بالية لتغطية جثامين الغرقى في الوديان، بسبب العيش في فقر مدقع، تنتفي فيه أبسط ظروف العيش الكريم… ويحق للجميع أن يطرح اليوم سؤالا عريضا حول الضريبة الكبيرة التي أداها المغاربة جميعا، لكي ينعم الجنوب بحياة مستقرة وكريمة، في مواجهة النزعات الإنفصالية الممولة بأموال الجزائر وحلفائها، أين ذهبت ؟، إنني أستبق كل جواب لأقول أنها على غرار ما يقع في مختلف أنحاء المغرب ذهبت في اتجاه حفنة من الوصوليين والأعيان والشخصيات البارزة والنافذة، من الذين اغتنوا من الوضع الضبابي طيلة عقود. ليس عيبا أن تُفجر الطبيعة غضبها في وجوهنا بين الفينة والأخرى، إنها أحداث تقع في جميع بلدان العالم، لكن ثمة فرق شاسع في تعامل الدول التي تحترم أبناءها وبين تعامل المغرب مع مثل هاته المحطات الأليمة، وهنا أطرح سؤالا آخر، ما الذي تغير في قدرات أجهزة التدخل ضد الكوارث كالوقاية المدنية ومختلف الأجهزة الأمنية منذ كارثة زلزال الحسيمة إلى اليوم مرورا بحريق روزامور وحادث تيزي نتيشكا وانهيار بوركون وسقوط مسجد مكناس، وانهيارات المدينة القديمة بالدار البيضاء ؟ أستبق الجواب مجددا وأقول إنه لا شيء تغير، لا تزال مختلف الأجهزة على حالها، ولا يزال التعامل مع الكوارث والحوادث الخطيرة بدائيا… كل ما يصيبنا في تعاطينا مع المخاطر والكوارث يعد معلولا، تتعامل النخب الثائرة بمنطق الثيران الهوجاء في وجه المسؤولين، ويتعامل المسؤول بكثير من الحيطة في مواجهة توازنات مرعبة يمكن للخطأ فيها أن يودي بكل شيء، ترمي الجهات المعنية بالكرة خارج ملعبها، تتقاعس الأجهزة الأمنية المكلفة بمواجهة هاته المخاطر، ينأى المجتمع المدني بنفسه إلى برج النقد، يتعالى البعض ويطلق البعض أصواتهم للصراخ، لنساعد الخيام المنصوبة للعزاء على نواحها، وما هي إلا لحظة حتى يعيننا النسيان على حفر سريع لقبر الكارثة ونسيانها. والصورة في الدول التي تعد فيها القيم النبيلة وقيم هيبة الدولة قائمة، يقوم المسؤولون بالمبادرة إلى اتخاذ القرارات الجريئة والسريعة، ويساعد المجتمع المدني في تنفيذها ويتخذ مبادرات آنية في التضامن وجمع لوازم مد المساعدة للمناطق المضرورة، وتقوم الأجهزة بتلقائية بأدوارها، وتعمل النخب السياسية على معالجة بقايا النقوص، ويبقى للنقد جوانب القصور وإن ضعفت أو زوايا تختلف في طرق مواجهة الكارثة، عوض أن يكون لهاته الأخيرة الحيز الأكبر والأوفر ولا شيء في العمل… وفي كلمة، إنه شيء من وصف، وقليل من ألم ينفثه الحبر في لحظات أليمة، وفاجعة عقيمة، راح ضحيتها 42 مواطنا مغربيا، ليتم قتلهم للمرة الثانية بنقلهم على حاويات الأزبال، بعدما قضوا وهم يجابهون من أجل البقاء عزلا بدون أن تطالهم أيادي الإنقاذ أنى كان مصدرها، فلا حول ولا قوة الا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون.